لعل لقاء رجب طيب أردوغان رئيس وزراء تركيا مع الرئيس جورج بوش الذي سيجري خلال أيام في واشنطن له طابع خاص وأهمية خاصة هذه المرة، ليس فقط بسبب العنف المشهود مع حزب العمال الكردستاني التركي الذي انفجر قبل أسابيع فالزيارة كانت محددة ومتفق عليها قبل ذلك.
وما انفجار العنف والتهديد وحشد الجيش التركي على المثلث التركي الإيراني العراقي وقصف مواقع حزب العمال، بل وتحرشات حزب العمال وأعماله العسكرية إلا عوامل طارئة أعطت للزيارة أهمية استثنائية بل ربما أهمية فائقة، ورغم أن أسباب هذه الزيارة تبدو وكأنها نتيجة للتوتر القائم، إلا أن ما يجري ما هو إلا جزء من أسبابها وواحد من مشاغلها وأهدافها التي استجدت بعد تحديد موعدها.
ويلاحظ أن هذا اللقاء التركي الأميركي هو الوحيد الذي يلقى اهتماماً عالمياً منذ عشرات السنين حيث لم تشهد أية زيارة لمسؤول تركي للولايات المتحدة مثل هذه الأهمية والاهتمام من قبل، ذلك لأنها تتعلق أساساً بعدم رضا الإدارة الأميركية عن الاستراتيجية الجديدة للحكومة التركية التي كانت طوال نصف القرن الماضي تتلطى تحت جناح استراتيجية الولايات المتحدة وتنفذ سياساتها بعيداً عن أية رائحة استقلالية أو شبه استقلالية، ولم تتعود الإدارات الأميركية المتتابعة على وجود مصالح تركية مستقلة وفاعلة وذات دور إقليمي، لأن السياسة التركية كانت في الغالب الأعم صدى للسياسة الأميركية أو الرغبات الأميركية ولا يتعدى دورها الإقليمي هذا الإطار.
وأوضح دليل علاقات تركيا السابقة مع الاتحاد السوفييتي ومع الجمهوريات السوفييتية في آسيا الوسطى ومع البلدان العربية والإسلامية المجاورة وأخيراً مع إسرائيل حيث كانت العلاقات التركية الإسرائيلية شديدة المتانة عسكرياً واقتصادياً وسياسياً بما يرضي الحليف الأميركي تماماً، حتى كادت تركيا طوال عشرات السنين تتخلى عن خصوصيتها ودورها الإقليمي الممكن والهام، ولنتذكر العداء التركي غير المبرر للدول الاشتراكية في أوروبا الشرقية وفي غيرها.
والمساهمة التركية في حلف بغداد المعادي لحركة التحرر العربية في خمسينات القرن الماضي والتهديد العسكري لسوريا عام 1956 وما بعدها إرضاء للسياسة الأميركية ومشروع أيزنهاور (إملاء الفراغ في الشرق الأوسط) فضلا عن استفزازها الدائم للعراق ومصر وغيرهما من البلدان العربية، وابتعادها بشكل عام عن وسطها الإقليمي الشرق أوسطي والإسلامي.
ولأن هذه الاستراتيجية التركية تغيرت تغيرا جذرياً كما يبدو منذ تولي حزب العدالة والتنمية السلطة، وأخذت تبتعد شيئا فشيئاً عن الهيمنة الأميركية وتختط طريقاً مستقلة فقد طاول القلق الساسة الأميركيين وإدارتهم، مما ينبئ بخسارة هذه الإدارة حليفا هاماً تتواجد على أرضه قاعدة عسكرية أميركية كبيرة (قاعدة أنجرليك) ويمكنه أن يلعب دوراً إقليمياً شديد الأهمية، ويؤمن مصالح أميركية وإسرائيلية استراتيجية وعسكرية وسياسية يصعب تعويضها إذا تغيرت السياسة التركية وبقيت في إطار رؤى حزب العدالة والتنمية الذي يبحث عن مصالح تركيا الحقيقية.
لقد كانت بداية تمرد حكومة حزب العدالة والتنمية في تركيا على السياسة الأميركية عندما رفضت السماح لإدارة الرئيس بوش استخدام الأراضي التركية لقصف العراق أو حتى مرور قوات عسكرية أو مساعدات لوجستية لجيوشها من الأراضي التركية ومعاداتها بالمطلق لاحتلال العراق.
ولعلها الصدمة الأولى للإدارة الأميركية التي كانت تعول الكثير على تواجدها العسكري في تركيا وعلى التأييد التركي لغزو العراق، ثم توضحت استقلالية الموقف التركي أكثر فأكثر فيما بعد من خلال تمتين العلاقات السورية التركية رغم رغبة الولايات المتحدة محاصرة سوريا والضغط عليها، والأمر نفسه بالنسبة للموقف من إيران.
كما تراخت العلاقة الإسرائيلية التركية بقرار تركي، فضلاً عن التباين بين سياستي البلدين في مواقف عديدة رفضت تركيا من خلالها الانقياد للرغبة الأميركية وأصرت على أخذ مصالحها بعين الاعتبار، وهذا كله جديد على السياسة الأميركية التي ما عهدت من تركيا إلا القبول والخضوع وربما الإذعان، ولم تتعامل معها منذ الحرب العالمية الثانية إلا كذلك، ولم تأخذ مصالحها في الحسبان ولا مرة .
خاصة وأن تركيا دولة إقليمية كبيرة المساحة كثيرة السكان متطورة الاقتصاد ذات تاريخ عريق وعلاقات تاريخية هامة مع دول الجوار، مؤهلة للعب دور إقليمي شديد الأهمية حتى ولو لم تقبل في المنظومة الأوروبية بل ربما من الأفضل أن لا تقبل في هذه المنظومة وتعمل للاستفادة من عمقها الثقافي في وسط آسيا، والتاريخي في غربها، والإسلامي في كل مكان.
لاشك أن سياسة حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا مشغولة ومهمومة بأعمال العنف التي يمارسها حزب العمال الكردستاني وقلقة من الأعمال التي قد تضطرها لاحتلال أراض في شمال العراق وتواجه مشاكل عديدة بسبب هذا الاحتلال لو حصل مع العراق ومع البلدان العربية الأخرى، إضافة إلى أن استخدام الجيش التركي سيعيد له دوره الداخلي الذي بدأ ينحسر والذي يرغب حزب العدالة والتنمية انحساره.
كما أن الحرب مع حزب العمال الكردستاني تعيق تعديل الدستور وإعادة النظر ببنية الدولة التركية وانتساب تركيا للمنظومة الأوروبية وتغير الأولويات الاستراتيجية للحكومة التركية، ولأن الإدارة الأميركية تعرف هذا كله، وتعتقد انه يتعذر بدون موافقتها تحقيق نصر للحكومة التركية على حزب العمال سواء بسبب الوجود العسكري الأميركي في العراق أم لإمكانية استخدام ألاعيب سياسية أخرى.
كتشجيع الحكومة العراقية على رفض التعاون مع الحكومة التركية وتحريض حكومة إقليم كردستان العراق والأحزاب الكردية فيه على دعم حزب العمال وحماية مواقعه وتقديم العون المادي والمعنوي له، بحيث تبقى الحكومة التركية مشغولة في الصراع معه لزمن طويل، أو تضطر للخضوع وتغيير سياساتها والعودة مجدداً إلى الحضن الأميركي.
وهكذا فإن الإدارة الأميركية سوف تستغل زيارة أردوغان في هذه الظروف بعينها لتساومه على تعديل سياسات حزبه وحكومته والعودة إلى بيت الطاعة الأميركي أو عليه أن يتحمل أعباء ردود الفعل الأميركية التي ستخلق له قلاقل ومشاكل وصعوبات عديدة ومعقدة، وهكذا سوف تضع الإدارة الأميركية رئيس الوزراء التركي بين أمرين أحلاهما مر. إما تغيير استراتيجية حكومته وعودتها للحضن الأميركي أو الغرق في مستنقع العنف وما يشبه الحرب الأهلية.
إن المطلوب من رجب طيب أردوغان إذن أن يغير سياسة حكومته ويقبل بتراجع دورها الإقليمي، ويعيد النظر بعلاقاته بدول الجوار وبإسرائيل، ويسمح للإدارة الأميركية استخدام قاعدتها العسكرية في تركيا إذا ما أرادت ضرب إيران أو سوريا أي أن يعيد تركيا إلى سابق عهدها خاتماً طيعاً بيد الاستراتيجية الأميركية.