في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947 قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة بقرارها رقم (181) تقسيم فلسطين بين العرب واليهود وإقامة دولة لكل منهما في القسم الذي خصصته له، ولم يحظ ذاك القرار بموافقة أية دولة آسيوية أو أفريقية.
وجاء نتيجة ضغوط عديدة وشديدة على أعضاء الجمعية العامة فحصل القرار على الأكثرية وأعطى (56%) من مساحة فلسطين للدولة اليهودية و(43%) للدولة الفلسطينية وأبقى القدس وجوارها التي تبلغ مساحتها (65 .0%) تحت وصاية الأمم المتحدة باعتبارها مدينة مقدسة.
كما قررت الجمعية إقامة وحدة اقتصادية بين الدولتين، والملاحظ أن عدد اليهود في فلسطين في ذلك الوقت لم يكن يتجاوز ثلث السكان ولا تتجاوز ملكيتهم (6%) من مساحة أراضيها، والملفت في قرار التقسيم أن المنطقة اليهودية كانت تضم (509) آلاف عربي بقي ثلثهم في المنطقة اليهودية بعد قيام إسرائيل وشرّد الثلثان.
فيما بعد في مختلف أنحاء العالم و(490) ألف يهودي فقط، أي أن عدد السكان العرب فيها أكثر من عدد السكان اليهود، وكان قراراً جائراً إذ كيف تقوم دولة يهودية أكثرية سكانها من العرب، بينما لم يكن في المنطقة العربية أكثر من (10) آلاف يهودي فقط، وهذا يؤكد أن القرار كان كيفياً ومنسجماً مع مطالب الحركة الصهيونية، وقد رفض العرب هذا القرار بسبب جوره المفضوح ولا عدالته.
لم يكن قرار التقسيم ابن ساعته وإنما جاء في سياق نشاط المنظمة الصهيونية الذي بدأ قبل نصف قرن من ذلك التاريخ، حيث أخذت هجرة اليهود تتنامى بعد المؤتمر الصهيوني الأول (مؤتمر بال 1897) الذي اختار فلسطين وطناً قومياً لليهود.
ثم بعد وعد بلفور الذي التزمت الحكومة البريطانية بتطبيقه فتولت الانتداب على فلسطين بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى من أجل ذلك، وبدأت المقاومة العربية للهجرة اليهودية منذ ذلك الوقت، وكانت ثورة البراق في فلسطين (1929) هي المؤشر الحقيقي والعملي على رفض الشعب الفلسطيني المطلق لهذه الهجرة وللانتداب البريطاني في الوقت نفسه.
وتيقنت المنظمة الصهيونية عندها أن المقاومة الفلسطينية للهجرة وإقامة الوطن القومي في فلسطين كلها هي أمر خطير وربما عصي على تحقيق الهدف، وزادت قناعة الحركة الصهيونية بعنف رد الفعل العربي بعد ثورة (1936) في فلسطين التي اضطرت حكومة الانتداب البريطاني إلى إيقاف الهجرة مؤقتاً والتراجع عن دعمها المطلق للحركة الصهيونية.
وقد انتبه قادة هذه الحركة أن اقتطاع قسم من فلسطين مهما كانت مساحته هو الطريق الأفضل لتحقيق الهدف وخاصة بعد تقرير لجنة بيل (1937) التي أوصت بتقسيم فلسطين مما لاقى هوى لدى الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية، وفي عام (1946) أبلغ القادة الصهاينة الرئيس الأميركي ترومان (وكان متعاطفاً مع اليهود) بأنهم على استعداد لقبول التقسيم.
فتم عندها تقديم مشروع التقسيم إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة التي أقرته بتلك الصيغة غير المقبولة ولا العادلة والبعيدة عن المنطق بأي مقياس قيست، وكان قادة الحركة الصهيونية قد خططوا لأن تكون المنطقة التي تعطى لهم نتيجة التقسيم هي موطئ قدم للتوسع فيما بعد وبناء الوطن القومي وهذا ما تحقق.
منذ إقرار التقسيم كانت عين القادة الصهاينة على التوسع، وساعدهم اشتعال حرب (948) بعد إعلان قيام الدولة اليهودية حيث انتصرت قواتهم المسلحة واستطاعت توسيع الرقعة المخصصة لهم بالتقسيم، فاحتلوا مناطق خارجها وبعض المدن العربية وحسنوا موقعهم ووسعوا حدود منطقتهم حتى بلغت مساحة الأرض التي أقاموا عليها دولتهم حوالي (75%) من مساحة فلسطين.
وانكفأ الفلسطينيون إلى الضفة الغربية وغزة، واستمر القادة الصهاينة بتقوية دولتهم وترسيخ حدودها وامتيازاتها وعززوا ذلك بعد عدوان (1956) حيث حصلوا على الحق في المرور في مضائق البحر الأحمر، ثم في عدوان (1967) كان ما كان.
يلاحظ حالياً انتشار رأيين على نطاق واسع:
الأول: ما تحاول القوى الصهيونية في العالم كله أن تؤكده وتنشره وتدخله في وعي الرأي العام العربي والعالمي وفي عمق الثقافة الإنسانية، وهو أن اليهود انتصروا في حرب (1948) بسبب شجاعتهم وصمودهم وإصرارهم وربما (بطولاتهم).
وواقع الأمر أن القوى العسكرية الصهيونية المسلحة كانت في تلك الحرب أفضل تسليحاً وأكثر عدداً من جميع الجيوش العربية والمقاومة الفلسطينية مجتمعة، ومع ذلك كاد العرب أن ينتصروا لولا فرض الهدنة الأولى عليهم من قبل مجلس الأمن.
حيث استغلت القوى الصهيونية وأنصارها فترة الهدنة لإرسال مزيد من السلاح للصهاينة، ولم تكن الجيوش العربية، حيث دولها حديثة الاستقلال، ذات جيوش عديدة ولا تملك السلاح الكافي، وكانت النتيجة الحتمية هي انتصار من يملك العدد الأكبر والتسليح الأفضل.
هذا فضلاً عن عدم وجود قيادة عربية مركزية حقيقية (كانت قيادة الملك عبد الله الأول بن الحسين) قيادة شكلية وغير فعالة، واصطدمت رغبات الحكام العرب (الملك فاروق والملك عبد الله وغيرهما) فيمن سيضع يده على البقية الباقية من فلسطين، لهذا كله ولغيره لم يكن أمراً غير عادي أن تنتصر القوى الصهيونية في تلك الحرب.
الثاني: أن عديداً من المحللين السياسيين العرب ومن أبناء الشعب الفلسطيني والعربي يعتقدون الآن أنه كان من الأفضل للعرب أن يقبلوا قرار التقسيم، وهم في الواقع إنما يبنون رأيهم هذا على ظروف الحاضر وعلى نتائج ستين عاماً من الصراع شكلت خسائر متوالية للعرب، أي يقيسون الماضي بظروف الحاضر وشروطه، والواقع أنه كان طبيعياً وموقفاً سياسياً صحيحاً رفض قرار التقسيم في ذلك الوقت.
ولم يغير شيئاً طرح المرحوم الرئيس بورقيبة في الستينات العودة لقرار التقسيم حيث لاقى عرضه رفضاً جماعياً من العرب. وعلى أية حال لم تكن إسرائيل لتقبل بأية عودة لقرار التقسيم بعد أن وسعت المنطقة التي خصصت لها في قرار الجمعية العامة بأكثر من الثلث.
لقد كان قرار التقسيم الخطوة العملية الأولى في طريق احتلال فلسطين في إطار خطة صهيونية منظمة ومبرمجة محددة الأهداف والوسائل وتعتمد على سياسة قضم فلسطين قطعة بعد قطعة، وساعد النظام العالمي الذي كان سائداً في ذلك الوقت على تحقيق هذه الأهداف، وسيبقى يوم 29 نوفمبر يوماً أسود في تاريخ العرب.