مرّة كل أربع سنوات يكسب شهر شباط/فبراير يوماً إضافياً في عدد أيامه، وهو في ذلك يضيف للناس الذين يتّبعون التقويم الشمسي المعمول به عالمياً الآن، يوما آخر في أعمالهم وشؤونهم الحياتية دون التوقّف عند قيمة هذا اليوم الإضافي وغير المحتسب مادياً لدى من يتقاضون أجورهم على أساس شهري.
ولا أعلم إنْ كانت هي مصادفةً أم قراراً عن سابق تصوّر وتصميم، أن تحصل انتخابات الرئاسة الأميركية دائماً في "سنة كبيسة"، كما هو مصطلح على تسميتها باللغة العربية عندما يصبح عدد أيام السنة 366 يوماً بدلاً من 365.
ولقد راودني هذا التساؤل عن التلازم بين انتخابات الرئاسة الأميركية وبين "الأعوام الكبيسة" لدى اطّلاعي على رزنامة حائط للعام 2008 تُباع الآن في أميركا وتحمل اسم "العدّ العكسي" لنهاية ولاية جورج بوش. وهي طبعاً رزنامة ساخرة تجعل الناس يبتسمون ويتفاءلون بقرب نهاية كابوس تعيشه أميركا ويعيشه العالم معها.
لكن من حظ إدارة بوش أنّ سنتها الأخيرة في الحكم ازدادت يوماً بفضل نظام التقويم الشمسي، وعلى الأميركيين والعالم أن يصبروا يوماً آخر بعدما تحمّلوا مشقّة نتائج أعمال هذه الإدارة منذ مطلع العام 2001.
وربّما – من باب السخرية أيضاً- القول أنه قد يكون مفيداً أن يقترح أحد على المشرّعين الأميركيين استخدام "التقويم القمري" في احتساب مواعيد انتخابات الرئاسة الأميركية، أو اعتماده الآن كحدٍّ أدنى في تعديل دستوري استثنائي يريح الأميركيين والعالم من مغبّة انتظار موعد رحيل إدارة بوش، ولو ليوم إضافي واحد!
النّاس والنّار والمياه
قبل نزول الرسالات السماوية، قدّست بعض الشعوب النّار وجعلت منها إلهاً يُعبد. وباستثناء القداسة التي يوليها الهندوس لنهر الغانج، لم يحدّثنا التاريخ – على حد علمي- عن تقديس شعب ما أو عبادته للمياه!
فعلى الرغم من أنّ المياه تحوز على "أكثرية الثلثين" من مساحة الأرض ومن جسم الإنسان، فإنّ الشعوب القديمة لم تمنحها ما حازته النّار لديها من قداسة!
الغريب في الأمر، أنّ النّاس أدركوا دائماً، بالفطرة وبالممارسة، ما أكّده النصّ القرآني: "وجعلنا من الماء كلّ شيءٍ حي"، وبأنّه متى انعدمت المياه فإنّ الهلاك هو مصير الناس والأرض معاً، وبالرغم من ذلك حازت النّار على الأفضلية مع أنّ المياه هي التي تطفئ حرائق النار!!
تُرى، هل هو تأكيد جديد بأنّ الناس، أو لنقل الجهلاء منهم الذين سبقوا عصور الرسالات السماوية، يخافون عادةً ما هو رمز للعنف والهلاك والدمار فيضطرون إلى تقديسه وتكريمه، بينما يتجاهلون ما لديهم وما حولهم من قوّة "ناعمة" في معظم الأحيان، وربّما "لا لون لها ولا طعم ولا رائحة" إنْ كانت نقيّةً صافية، لكنّها حين تكون كذلك، فإنّ الناظر إليها يرى فيها نفسه، كما تعكس كل ما حولها من بشر وطبيعة، فيرى الناس زرقة السماء في مياه الأرض الصافية، ويمتزج جمال نقاء ما هو في العُلى مع صفاء ما هو على الأرض.
اليوم، يعيش العالم هواجس "الاحتباس الحراري" والتغييرات المناخية، ممّا يهدّد مستقبلاً بحالات عديدة من الجفاف أو الطوفان، وممّا سيترك أثراً كبيراً على فصول الاعتدال بالطبيعة (الربيع والخريف)، ويجعل الكرة الأرضية أسيرة الصيف الحار الحارق أو الشتاء البارد القاسي.
وهذا الاختلال في التوازن الطبيعي للمناخ هو على الأرجح من صنع الإنسان الذي استخلفه الله على الأرض لبنائها وإعمارها والحفاظ عليها، فهي أمانة مستخلفة من الخالق لم يُحسن الإنسان رعايتها.
وما يحدث في الطبيعة والمناخ نراه أيضاً في الأفكار والمعتقدات حيث يتّجه الناس أكثر فأكثر لتبعية "رموز نارية" تشعل اللهب هنا وهناك، تحرق الأخضر واليابس معاً، فتذهب ضحية هذه القيادات والأفكار والجماعات، نفوس بريئة وأوطان عريقة!
هو عصر التطرّف في المناخ وفي الأفكار، هو عصر العودة إلى الجاهلية بما فيها تقديس "النار" ومُشعليها، بينما الناس هم حطبها ووقودها، والمسؤولية هنا هي على التابع والمتبوع معاً، وعلى المتقاعسين عن دورهم في رعاية الأمانة وفي الحفاظ على توازن الطبيعة واعتدالها.
لكن الفكر المعتدل المطلوب ليس هو بالفكر الواحد أينما كان، ولا يجب أن يكون. فالإعتدال هو منهج وليس مضموناً عقائدياً.
وقد يكون المضمون دينياً أو علمانياً، وطنياً أو قومياً أو أممياً، لا همّ بذلك، فالمهم هو اعتماد الاعتدال ورفض التطرّف كمنهاج في التفكير وفي العمل وفي السلوك الفردي أيضاً.
وربّما يكون أصلح مثال على تنوّع الفكر المعتدل ضمن وحدانية المنهج هو ما ورد في القرآن الكريم ( في الآية 12 من سورة فاطر) عن الاختلاف في مياه الأنهار والبحور بين "عذب فرات" وبين "ملح أجاج"، لكنّهما يشتركان في خدمة الإنسان (رغم تناقض طبيعة مذاقهما) من حيث توفير اللحم الطري والحلي ووسيلة الانتقال:
"وما يستوي البحران هذا عذبٌ فرات سائغٌ شرابُه وهذا ملحٌ أجاج، ومِنْ كلٍّ تأكلون لحماً طرياً وتستخرجون حليةً تلبسونها، وترى الفلكَ فيه مواخرَ لتبتغوا من فضلِه ولعلّكم تشكرون".
فالاختلاف هو سنّة الخلق وإرادة الخالق، بينما دعاة التطرّف اليوم (وهم أيضاً ينتمون إلى أديان وشعوب مختلفة) يريدون العالم كما هم عليه، و"من ليس معهم فهو ضدّهم"، ويكفّرون ويقتلون من ليس على معتقدهم حتى لو كان من أتباع دينهم ومن قومهم.
هو فكر كابوسي جاهلي يستفيد حتماً من أيّة شرارة نار يُشعلها متطرّف آخر في مكان آخر، فالحرائق تغذّي بعضها البعض، لكن النار مهما احتدّت وتأجّجت، فإنّها ستأكل في يومٍ ما قريب ذاتها، حتى لو تأخّرت أو تقاعست عن دورها قوى مياه الإطفاء هنا أو هناك.
عسى أن تكون أيضاً هذه السنة الكبيسة بداية لأفول عصر الفكر الكابوسي!