فُجعت بنبأ رحيل وجه فلسطيني عربي مميز، ألهمَ أجيالاً من المناضلين. هو الدكتور جورج حبش. هذه السطور مهداة إلى روحه الطاهرة.
كنّا نسمع دوماً بالجيش الذي لا يُقهر. إنّه جيش إسرائيل، خاض حروباً كثيرة مع الجيوش العربية النظاميّة، فكان النصر دوماً حليفه. وذلك بفضل تفوّقه عدّةً وعديداً. العرب هُم الأوفر عدداً بفارِق كبير، مع ذلك فإن الجيش الإسرئيلي، عند إعلان حال التعبِئة العامة، يَغدو هُو الراجِح عديداً. أما التفوّق التكنولوجي الذي يتمتّع به الجيش الإسرائيلي فحاسِم، وذلك بفضل ما يتزوّد به من الأسلحة والآليات والذخائر الأكثر تطوراً في العالم، والتي تجود بها أعظم قوّة في العالم، أميركا، على دولة العدوان في الشرق الأوسط، إسرائيل.
بقيت هذه سِمة الجيش الإسرائيلي المميّزة طوال سنوات، إلى أن اهتزّت صورة التفوّق العسكري الصهيوني بتصاعد عمليات المقاومة في فلسطين ولبنان. فالقوّة التي لا تُقهر لم تستطع القضاء على المقاومة الفلسطينية بعد نحو ستين سنة على قِيام الكيان الصهيوني، فبقيت التنظيمات المقاومة تنشط داخل الأرض المحتلة، في عقر دار الاحتلال، لا بل حتى على تُخوم عاصمة الكيان الغاصِب.
تحت مطرقة المقاومة اضطرّت قوات الاحتلال الإسرائيلية إلى إخلاء بيروت، بعد احتلالها عام ,1982 والاتّفاق المفروض فرضاً بين الحكومة اللبنانية وإسرائيل، اتّفاق 17 أيار، سُرعان ما سقط. وتحت مطرقة المقاومة أخلت قوات الاحتلال جنوب لبنان في 25 أيار عام 2000 من دون تفاوض ومن دون قيدٍ أو شرط باستثناء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا.
وأخلى الاحتلال الصهيوني قطاع غزّة في فلسطين من دون قيدٍ أو شرط عام 2007 ولو أنّه أحكم حصاره على المدينة فحرم أهلها من أبسط مقوّمات العيش إذ قطع عنها الكهرباء والماء والرغيف وسائر المواد الغذائية.
وشنّت إسرائيل حرباً شاملة على لبنان في صيف العام ,2006 فكان أن صمدت المقاومة في وجهها صُموداً أسطورياً وانتهت الحرب بعد 33 يوماً حيث بدأت والقتال يدور على تخوم القرى والبلدات الحدودية، وعجز الجيش الذي لا يُقهر عن تسجيل تقدّم على الرغم من استماتته لاحتلال موقع على خطّ الليطاني. كانت الخسائر التي مُنيَ بها لبنان هائلة، بما وقع من ضحايا بين الآمنين الأبرياء، وما كان من تهجير للناس بلغ ما يُناهِز ربع مجموع الشعب اللبناني، وما حلّ من خراب ودمار في المرافق والممتلكات. الثمن كان غالِياً. لكن النصر، بصمود المقاومة، كان ناجِزاً مبيناً. وأي نصر يمكن أن يتحقق، حتى في الحروب العالمية، من دون ثمن؟
هكذا بان لكل ذِي عينٍ ترى أن الجيش الذي لا يُقهر مُعرّض للهزيمة ليس في مواجهة جيوش نظامية وإنما في مُقارعة المقاومة الشعبية. كشفت المقاومة مواطِن الضعف في الجيش الإسرائيلي فتبدّدت صورة الجيش الذي لا يُقهر، وظهر جلِياً أن الشعب المقاوِم هو الذي لا يُقهر. شعب لبنان لم يُقهر، وكذلك شعب فلسطين المناضل.
مشهد غزة كان ثورياً، إذ أحكم العدو الغاشم الحصار من حولها وشدّ على خِناقِها، فحرمها من كل مقومات الحياة، ولو استطاع أن يمنع عنها الهواء لفعل. فإذا بالشعب الحّي ينتفِض ويُحطّم جدار الفصل عن أرض مصر العربية، مُتحدّياً قوات الأمن التي عزّزتها السلطة المصرية للحؤول دون اختِراق الحدود. فأُسقط في يد السلطة الصهيونية، وفي يد الإدارة الأميركية التي تدعم الاحتلال وتغضّ الطرف عن هتك القِيم التي تتشدّق بها الدولة العظمى زوراً، إذ تنادي بالحرية والديمقراطية والعدالة وسائر حقوق الإنسان، فإذا بها تُندّد باختِراق الحدود ممّن يتضوّر جوعاً.
هكذا يجد العالم نفسه أمام مشهد جديد، مشهد الشعب الذي لا يُقهر، وأُفول نجم الجيش الذي كان يُقال إنّه لا يُقهر. فإذا بإسرائيل للمرة الأولى في تاريخها ترهب الإقدام على حروب تشنّها على جيرانها العرب. فهي باتت تحسب ألف حِساب قبل القِيام بعدوان جديد، فلم يعد تفوّقها العسكري على الجيوش العربية النظامية مطيّتها للنصر المُحتّم، بعد أن قلبت المقاومة معطيات الصراع. فالتفوّق التكنولوجي الحربي لم يعد هو الذي يتحكّم بمسار الصراع ببُروز القنابل البشريّة، ودروع الإيمان، وأسلحة البذل والتضحية بالنفوس والأرواح، ومِنعة الكرامة والإباء. وكلّها من عِتاد المقاومة وذخائرها.
كان مشهد غزة في شتاء عام 2008 مشهد الشعب الذي لا يُقهر. ولسوف يسجّل التاريخ أن هذا المشهد، كما كان مشهد الجنوب اللبناني في صيف العام ,2006 مِفصلاً في مسار الصراع العربي الإسرائيلي، لا بل نقطة تحوّل في حياة الكيان الصهيوني.
إسرائيل ولدت وعاشت ونمت وازدهرت على دفق الهجرة البشرية ودفق الأموال إليها على وقع رِهانات عمياء على مِنعتها وتفوّقها. رأسمال إسرائيل كان استقرارها، مِنعتها، قوّتها، وتالياً اطمئنان يهود العالم إلى مستقبلها، وكذلك ثِقة المراهنين عليها مدخلاً لاقتِحام المنطقة العربية واستغلال مواردها وتسخيرها في خدمة مآرِب ومطامِع لا حصر لها. فإذا بالمقاومة العربية تُحطّم هذه الصورة والأسطورة. فلم يعد مُستبعداً أن ينقلِب التيّار إلى عكسه، فيرجح الدِفق البشري والمالي الخارج من إسرائيل على الدِفق الوافِد إليها. بذلك يتناقص الأوكسجين في الهواء الذي يتنفّسه الكيان الغاصِب. فهل يكون في ذلك بِداية النهاية للوطن الحَصين؟ وهل يكون في ذلك إنعاش لعزيمة العرب في التمسّك بالحقوق القومية في الوطن السَليب؟ هل نعود إلى المُناداة بفلسطين واحدة، يعيش فيها العربي إلى جانب اليهودي بسلام ويعود إليها اللاجئون الفلسطينيون كافة بموجب قرار الأمم المتحدة 194؟ هل ينبعث حلم التحرير مجدّداً فيحلّ محلّ مشاريع التسوية الركيكة؟
عن موقع «السفير»