نأخذ على الموالاة والمعارضة معاً الاكتفاء بالسجال والجدل العقيم، كلٌ يخاطب جمهوره ولا يعبأ بوجود الآخرين. فلا نسمع مبادرات من هذا الجانب أو ذاك لردم الهوّة والتواصل وطرح مشاريع الحل.
استمرأنا السجال السياسي العقيم وأضحى كل منا يطرب لسماع صوته ويغفل أصوات الآخرين. فإذا بنا أمام مأزق مصيري من صنع يدنا لا محيد عنه. شتّان بين السجال والحوار، في السجال كل منا يخاطب جمهوره، وليس بيننا من يأبه لمخاطبة الآخر. أما في الحوار فجلوس حول طاولة ليخاطب واحدنا الآخر، فنتطارح الأفكار والبدائل والحلول ونحتكم إلى العقل والمنطق في معالجة قضايا الخلاف إلى أن نصل إلى تسويات ناجعة لها.
أما اليوم، فقد أضحت الأنظار شاخصة إلى الاستحقاق الرئاسي ولكل فريق حساباته في الرهان على تصورات معينة تُرضي غروره من غير اعتبار إلى أن أياً منهم ليس وحده في هذا الوطن.
هناك من يراهن على بلوغ الاستحقاق الرئاسي من دون انتخاب رئيس جديد للبلاد، على أمل أن تحل الحكومة القائمة محل رئاسة الجمهورية في سلطاتها وصلاحياتها بحسب الدستور عند شغور سدّة الرئاسة.
وهناك من يراهن في المقابل على إطلاق حكومة جديدة قبل موعد الاستحقاق لتسلم المهام الرئاسية بناء على أن الحكومة الحالية في نظر هؤلاء غير موجودة فعلياً.
إننا بذلك نستسلم لحكم الرعونة في إدارة شأن المصير لوطننا. وعواقب هذا المنحى تبقى غير محسوبة على وحدة الشعب والبلاد وعلى السلم الأهلي ومن ثم على التداعيات التي يمكن أن تترتب سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، والحصيلة ستكون كارثية على حال الإنسان في هذا البلد ومعيشته.
إننا نتّهم طرفي النزاع بالتورّط في الكيد للبنان واللبناني على هذا المستوى. وإن شاؤوا رد الاتهام عن أنفسهم فليعلنوا للملأ ماذا يطرحون من الحلول والبدائل والمبادرات.
ونحن نتّهم أمريكا بتبنّي هذا السيناريو انطلاقاً من زعمهم أن الحكومة منتخبة ديمقراطياً، وهم في ذلك يغفلون أن مجرّد وجود أزمة وطنية تهدد المصير هو شاهد على أن ليس في لبنان ديمقراطية حقيقية. فلا أزمات وطنية في ديمقراطيات العالم الحقيقية. متى كانت آخر أزمة وطنية في أمريكا أو بريطانيا أو فرنسا؟ هناك مشاكل وقضايا تنشأ يومياً، وكلها تحل عبر المؤسسات ديمقراطياً قبل انفجارها أزمات وطنية. ثم من الخفة اعتبار الديمقراطية موازية لصندوقة اقتراع، وقد رفضت أمريكا نتائج الاقتراع في فلسطين لأنها لم تكن على خاطرها وخاطر “إسرائيل”، فقاطعت السلطة وفرضت حصاراً تجويعياً على الشعب الفلسطيني.
فمن مقومات الديمقراطية التمثيل الصحيح وفصل بين السلطات يقوم عليه هيكل المساءلة والمحاسبة على كل صعيد وفي كل مجال. كلا المقوّمين للديمقراطية غير متوافر في لبنان. لذا القول إن لبنان يرفل في كثير من الحرية ولكنه يحظى بقليل من الديمقراطية. ثم إن الحكومة في لبنان لا تنتخب ديمقراطياً. بل هي تُسمى وتمنح ثقة مجلس النواب، الذي لا يعبر عن ديمقراطية حقيقية. إنه نتاج قانون انتخاب غير صالح بشهادة الجميع، لذا تعديل القانون مع كل دورة انتخابية، ولذا السجال المتواصل حول رزايا النظام الانتخابي المعمول به منذ الاستقلال وضرورة إصلاحه جذرياً.إن نتائج الانتخابات هي وليدة فعل المال السياسي، حيث الصوت سلعة تباع وتُشرى، وفعل الهيمنة الإعلامية والإعلانية لذوي السطوة والمال، وفعل العصبيات العشائرية والمذهبية والطائفية وتدخلات الأجهزة الأمنية في المسار الانتخابي. فنحن لسنا مأخوذين، كما هي الإدارة الأمريكية، بديمقراطية النظام في لبنان مع وفرة الحريات فيه. ثم إن الديمقراطية تتلازم وقدراً فاعلاً من المساءلة والمحاسبة سياسياً وإدارياً وقضائياً. وهذا الموجب غير متوافر في لبنان في غياب فصل حقيقي بين السلطتين التشريعية والإجرائية وبين السلطتين الإجرائية والقضائية.
نأخذ على السلطة والأكثرية من ورائها انسياقهما وراء الموقف الأمريكي بأمانة، وشهادة الإدارة الأمريكية بهم شاهد عليهم. فما سبق في تاريخ لبنان أن كان هذا التأييد السافر، بالاسم، للحكم وفئة سياسية في لبنان. وقد جرّ هذا التأييد دعماً معلناً أو غير معلن من كل السائرين في ركب الدولة العظمى في المنطقة وسائر أرجاء العالم. فإذا بأحد نجوم السياسة في لبنان يحتجّ على الطعن في شرعية الحكومة بالقول : كيف يستقيم هذا الكلام والحكومة مدعومة من العرب والعجم. فلم يبقَ إلاّ نصف الشعب اللبناني الذي لا حساب له في الموازين الدولية.
ونأخذ على رموز الموالاة خطابهم التصعيدي، وخصوصاً ذاك الذي يصدر عن قيادات كانت من نجوم المسرح السياسي أيام المجازر الجماعية والقتل والخطف على الهوية. سجلّهم حافل ويحاضرون علينا يومياً بالعفّة والوطنية، وكان بينهم من كانوا دُمى في أيدي الاستخبارات السورية التي يندّدون بها اليوم، وقد انصاعوا لأمرها في التمديد للرئيس الهراوي ثم التمديد للرئيس لحود وهم اليوم يطعنون بشرعيته. ونأخذ على الموالاة تقديس استمرار الحكومة القائمة. كل الحكومات في تاريخ لبنان سقطت في نهاية المطاف، ومعدّل عمر الواحدة منها لا يتجاوز السنة ونصف السنة. فما بالنا نسمع حتى من مرجعيات دينية موالية للموالاة أن تنحية الحكومة الحالية ستكون في مستوى الكارثة. بصرف النظر عن رأينا في دستورية الحكومة أو شرعيتها، فإننا لا نجانب الحقيقة عندما نقول إن الوضع الحكومي غير صحي وغير سليم، لذا وجب إصلاحه بتغيير حكومي. أصبحت الحكومة محور المأزق الذي يطوّق لبنان ويتهدّد مصيره. فهل بقاء الحكومة أعزّ من مصير لبنان ؟
ونأخذ على رموز المعارضة أخطاء جسيمة في الممارسة والتكتيك. من حقهم أن يتظاهروا، فالتظاهر تعبير ديمقراطي. ولكن ليس من حقّهم البقاء في الشارع إلى ما شاء الله. مشهد الاعتصام في الخيم في ساحات عامّة أضحى مبتذلاً ومن دون أي طائل. وكانت له ارتدادات سلبية على الوضع الاقتصادي في أماكن اعتصامهم كما على صورة البلد، فكان لذلك انعكاس سلبي على الحركة الاقتصادية العامة. من الطبيعي أن تكون للمعارضة صداقات مع سوريا وإيران، وهما من الدول الشقيقة والصديقة. ولكن ليس طبيعياً أن تُرمى المعارضة بالارتهان إلى القرار السوري أو الإيراني ولا تنفي ذلك.
ونأخذ على الموالاة والمعارضة معاً الاكتفاء بالسجال والجدل العقيم، كلٌ يخاطب جمهوره ولا يعبأ بوجود الآخرين. فلا نسمع مبادرات من هذا الجانب أو ذاك لردم الهوّة والتواصل وطرح مشاريع الحل.
المحكمة ذات الطابع الدولي أضحت محل اجماع بين اللبنانيين، وما الخلاف إلا حول بعض نصوص تنظيمية وردت من الأمم المتحدة. ولا نفهم لماذا لا يُشكّل فريق مشترك، من الموالاة والمعارضة وقضاة محايدين، لمناقشة النصوص والاتفاق على صيغة نهائية. لا يجوز أن تبقى المحكمة مادّة للمزايدة وتسجيل النقاط، هذا مع العلم أن فرصة تشكيل المحكمة بحسب الأصول الدستورية لم تفت بعد، خصوصاً وأن التحقيق في جريمة اغتيال الشهيد رفيق الحريري لم ينجز، لا بل إن مجلس الأمن منح مهلة سنة إضافية للتحقيق. وحتى اليوم، لا يوجد مضبطة اتهام واحدة في حق مشبوه، ولا حتى في حق أي من الضباط الأمنيين الموقوفين.
إننا ندين الطبقة السياسية جمعاء على سوء أدائها في التعاطي مع قضايا المصير. إنه تصرّف غير مسؤول، يصبّ، من جهة، في خدمة مشاريع أمريكا في المنطقة وبالتالي في خدمة مصالح “إسرائيل”. فنحن لا نرى فارقاً، ولا حتى في التفاصيل، بين سياسة أمريكا وسياسة “إسرائيل” في الشرق الأوسط. ويصب هذا التصرف من جهة ثانية، في مجاراة سياسات ومواقف دول إقليمية، وبخاصة سوريا وإيران، ولو تعارضت مع مصالح لبنان الذاتية.
لا عذر لأطراف النزاع في لبنان في عدم الخوض في حوار وطني يُفضي أقلّه إلى اتفاق نهائي حول المحكمة وقيام حكومة انتقالية يتم عبرها التوافق على الاستحقاق الرئاسي. نحن لا نستطيع حل قضية المنطقة ونحن في صلبها، ولكن وجود حكومة جامعة تمكننا من أن نتعايش مع أزمة المنطقة إلى أن تلقى الحل الناجع لها.
* رئيس وزراء لبنان الأسبق