يوحي انتخاب أحمدي نجاد ببدء مرحلة جديدة من التشدد في السياسة الإيرانية الداخلية والخارجية وبتصعيد التوتر بين إيران والولايات المتحدة وربما بينها وبين أوروبا أيضاً، كنتيجة لفوز الرئيس الجديد الأصولي المتشدد المغمور الممثل للذين ينحون إلى العودة إلى “النقاء الثوري” والأصالة الإسلامية، خاصة أنه المرشح الرئيسي للحرس الثوري “الباسداران” والميليشيات الثورية أيضاً “الباسيج” وهي منظمات أصولية محافظة، يشكل منتسبوها وأنصارها ما يقارب ربع الناخبين الإيرانيين، وأعطوا نصف الأصوات التي حصل عليها السيد أحمدي نجاد، والأهم من ذلك أن الرئيس المنتخب هو الابن الروحي لمرشد الثورة السيد علي خامنئي.
إن صلاحيات رئيس الجمهورية في إيران محدودة، فهو جزء من السلطة التنفيذية، يخضع تنفيذ قراره لرأي أكثر من مؤسسة أو هيئة، معظمها غير منتخبة، وتقع جميعها تحت توجيه وسلطة مرشد الثورة ومنها لجنة تشخيص مصلحة النظام ولجنة حماية الدستور وغيرها من لجان أهل الحل والعقد، وقبل هذا وذاك يخضع للصلاحيات الواسعة جداً التي أوكلها الدستور الإيراني لمرشد الثورة، ما يجعل رئيس الجمهورية والحكومة منفذين ثانويين للسياسة العامة للبلاد التي يخطها المرشد وتشرف عليها تلك اللجان، حتى أن البعض وصف رئيس الجمهورية بسكرتير للمرشد. ولهذا وعلى عكس المتوقع، فإن الإطار العام للسياسة الإيرانية الداخلية والخارجية لن يختلف كثيراً إن فاز محافظ أو إصلاحي رئيساً للجمهورية، والفروق بين الحالتين هي فروق بالدرجة ولا تصل إلى فروق نوعية.
حاول الإصلاحيون بقيادة الرئيس خاتمي طوال ثماني سنوات الماضية أن يحققوا بعض برامجهم المتعلقة بالداخل، ولكنهم فشلوا في معظم محاولاتهم، ذلك لأن اللجان والهيئات الدائمة الأخرى ذات الصلاحية كانت تقف دائماً سداً منيعاً أمام مشروعاتهم وتصادرها وتمنعها من الوصول لأهدافها. وقد لوحظ ذلك جلياً في مجال الحريات العامة والاجتماعية وفي حريات الصحافة خاصة، فقد أغلقت عشرات الصحف في عهد خاتمي دون رغبته بل رغما عن إرادته، ووضعت العراقيل أمام أي إصلاح للنظام السياسي، ولم يتح لسياسة الانفتاح الخاتمية أن تأخذ مداها. وأدى التباين بين برامج رئيس الجمهورية وآراء المرشد والمؤسسات المحافظة إلى تعطيل عملية الإصلاح في أكثر من مجال، وذهبت ثماني سنوات من محاولات الإصلاح هباء. ورغم أن أكثرية أعضاء المجلس التشريعي كانت من الإصلاحيين، واتخذت عدداً من القرارات التي من شأنها البدء بتنفيذ المشروع الإصلاحي الذي نادى به خاتمي، إلا أن هذه القرارات كانت تصطدم دائماً برأي لجنة من اللجان التي من حقها دائماً تعطيل قرار المجلس أو الرئيس أو تصطدم برأي المرشد الذي له الحق نفسه.
ومع أن الإصلاحيين حققوا بالكاد بعض منجزات داخلية إلا أن معظم ما حققوه عاد بالدرجة الأولى على السوق (البازار) وعلى الطبقة الوسطى عامة وعلى النخبة المثقفة وبعض شرائح المجتمع، دون أن يطال الفئات الفقيرة، وكان لهذه الإصلاحات من جانب آخر بعض السلبيات حيث ازداد غنى البعض ونشأت طبقة أغنياء جدد وزاد حجم الفساد والمظاهر الأخرى التي أشار إليها أحمدي نجاد خلال دعايته الانتخابية وحاول أن يجعل منها سبباً أساسياً من أسباب الفقر، ووعد بالقضاء عليها بعد انتخابه لصالح الفقراء والمعوزين... وهي نفسها التي منحته أصوات هؤلاء وأخافت “البازار” والطبقة الوسطى والمستثمرين الإيرانيين بعد نجاحه، خاصة أن نسبة من هم دون خط الفقر في إيران تتجاوز ربع عدد السكان، وسيكون حل مشكلتهم مشكلة كبرى أمام قادة المرحلة المقبلة ربما تسبب خيبة مشهودة للفقراء.
بقي القول إنه يُتوقع مزيد من التشدد في السياسة الداخلية، سواء تجاه الحريات عامة، وحرية الصحافة والإعلام خاصة، أم تجاه العلاقات الاجتماعية وشؤون المرأة والتدخل في حياة الناس الشخصية، دون أن يستطيع النظام حل المشكلات الاقتصادية الكبرى حلاً جذرياً، وربما سيبقى “البازار” هو البازار، وسيستمر نمو طبقة الأغنياء الجدد، مع بعض التحسن الشكلي في حال الفقراء.
لعل الأمر نفسه، أي صلاحيات الرئيس المحدودة، سنجده في السياسة الخارجية، حيث كانت سياسة خاتمي ومجموع الإصلاحيين، وهم أكثرية، تلاقي صدى من هنا وهناك، ولم تنفع محاولاتهم تحقيق الانفتاح الجدي على الولايات المتحدة وأوروبا وعلى بلدان العالم الأخرى كما يجب، وبقيت السياسة الخارجية الإيرانية رغم كل شيء بأيدي المحافظين، ومن صلاحيات المرشد الدستورية.
لا تستطيع شعارات التشدد التي طرحها أحمدي تجاه السياسة الخارجية وتجاه الولايات المتحدة خاصة وأوروبا والصخب الذي رافقها، أن تخفي أن السياسة الخارجية الإيرانية هي دائماً بيد المرشد، وقد كانت سياسة براغماتية وليست متشددة على أي حال، فالاتفاق الضمني مع الولايات المتحدة في التعامل مع القضية الأفغانية والاتفاق الآخر في التعامل مع القضية العراقية والتجاذب مع أوروبا وأميركا في قضية المفاعلات النووية وغيرها هي سياسة المرشد وقراره، ولم تكن (براغماتية) المرشد والمحافظين أقل من تلك التي مارسها الإصلاحيون. وفي ضوء ذلك فإن الاعتقاد بتغيير السياسة الخارجية الإيرانية تغييراً كبيراً بعد نجاح أحمدي، ربما كان أمراً مبالغاً فيه، لأن هذه السياسة ليست من صلاحيات رئيس الجمهورية ولا يقررها لا هو ولا المجلس التشريعي.
الأمر الوحيد الذي يتفق عليه المراقبون هو أن السلطة كلها ما فوق التشريعية والتشريعية والتنفيذية أصبحت الآن بأيدي المرشد ومستشاريه، وألغيت فعلاً محاولات مشاركة الإصلاحيين في اتخاذ القرار، كما ألغي دور المؤسسات المنتخبة أو شبه المنتخبة فيه. وهذا أمر يوحد سلطة صاحب القرار ويسهل اتخاذه، إلا أنه من جانب آخر سيدفع السياسات عامة نحو التشدد “لمجرد التشدد” دون الاعتداد ببرامج واضحة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وكذلك في مجالات السياسة الخارجية.
لعل الانتخابات الرئاسية الإيرانية الأخيرة تلقي ضوءاً من جديد على بنية النظام السياسي الإيراني، حيث لا صلاحيات جدية للمجلس التشريعي المنتخب ولا للرئيس المنتخب، والسلطة كل السلطة للمرشد واللجان التي يعينها.