رفع متظاهرون من الطائفة الإسماعيلية علم الدولة الفاطمية في إحدى بلدات سورية, في آذار “مارس” الماضي, بعد مشاجرة جرت في الكاراج المحلي بين سائقين من طائفتين تسكنان تلك البلدة، تطورت إلى اضطراب سادها لأيام عدة، فيما أصيبت صحافية أميركية بالذهول لما سألت مرافقاً عراقياً يقف بجانبها في أحد شوارع كربلاء لمشاهدة الحشود المليونية التي جاءت بعد أسبوعين من سقوط صدام حسين لإحياء أربعين الإمام الحسين: “متى مات”, وأجابها ذلك العراقي بأن الموت حصل قبل أربعة عشر قرناً، مفترضةً بأن طراوة وطزاجة وقوة ذلك الحزن والتفجع الذي أظهرته تلك الحشود لا يمكن أن يكون إلا لموت لم يمض عليه سوى ايام وعلى الأكثر أسابيع.
في العقد الأخير من القرن العشرين, انهارت تفاؤلية فكرية – سياسية سادت معظم القرن الماضي “وكذلك الذي سبقه” كانت تقوم على اعتقاد, ساد مَنْ هم على اليمين “الاتجاه الراديكالي العلماني المعادي للإكليروس, المتأثر بالفلسفة الوضعية” ومَنْ في اليسار “الماركسيون بفرعيهم الشيوعي والاشتراكي الديموقراطي”, بأن الأفكار الدينية “وكذلك النزعات القومية”، هي في انحسار في النواحي السياسية والاجتماعية والثقافية.
بدلاً من ذلك، نرى، في بداية القرن الجديد، صورة معاكسة لتلك التفاؤلية، عندما يستعيد بابا الفاتيكان قوته السياسية, وكذلك الفكرية، مع تأثيرات كبرى في الجوانب الاجتماعية, فيما يفرض اتجاه بروتستانتي إحيائي نفسه بقوة في الحياة السياسية الأميركية, بينما نرى كنيستي موسكو والصرب الأرثوذكسيتين محدِّدتين لكثير من معالم السياسة والأفكار في اللوحتين اللاحقتين لسقوط وتفكك الاتحاد السوفياتي ويوغسلافيا.
لم يكن صموئيل هنتنغتون, في مقاله “صدام الحضارات” المنشورة في عام 1993, رجلاً سوداوي الأفكار, وإنما مصّوراً لوقائع السياسة العالمية في مرحلة “ما بعد موسكو”، فيما لم يكن الآخرون يتجرأون أو ربما لا يريدون رؤية تلك الوقائع: من دون ذلك لا يمكن تفسير تلك اللوحة السياسية العالمية, التي سادت في ربع قرن من الزمن، وطفت فيها على سطح السياسة العالمية أسماء الخميني, والبابا يوحنا بولس الثاني، وشارون, وأحمد ياسين، والأصولي الهندوسي فاجبايي، وبوش الابن، وبن لادن، وميلوسيفيتش، والروسي جيرونيفسكي وبطريرك موسكو، بدلاً من تيتو, والشاه, والبابا بولس السادس, ورابين, وعرفات، وأنديرا غاندي، وكارتر، وعبد الناصر، وبريجنيف وسوسلوف.
كان العالم العربي في قلب هذا الاتجاه العالمي: كان ابن قيم الجوزية، في القرن العشرين العربي، أكثر تأثيراً فكرياً وسياسياً من طه حسين وأكثر حضوراً، وهذا أمر كان عكسه هو الصحيح بين عامي 1918 و1948، عندما كان “عميد الأدب العربي” والليبرالي أحمد لطفي السيد، وعلي عبد الرازق، من أهم الأسماء المتصدرة للفكر العربي، وليس حسن البنا أو مصطفى السباعي، فيما اختلف الأمر بعد قيام دولة إسرائيل، التي كان “التوراة” و“التلمود” مصدرين لهويتها الثقافية ونبعاً دينياً لأيديولوجيتها السياسية المتمثلة في الصهيونية، ما استدعى أسلحة مماثلة عند العرب، خصوصاً بعد أن فشلت “العروبة” في مواجهة “الصهيونية”، الأمر الذي تجسد بوضوح في صباح يوم الخامس من حزيران (يونيو) 1967، لتبدأ بعدئذ مفاعيل ذلك بالظهور, بعد مرحلة انتقالية مثلّها ياسر عرفات وجورج حبش ونايف حواتمة وجورج حاوي الذي أطلق مع محسن إبراهيم مقاومة 1982 ضد الإسرائيليين، مع تصدر “حماس” و”الجهاد الإسلامي” و”حزب الله” لمقاومة الإسرائيلي في الخمسة عشر عاماً الماضية.
كان الطابع الديني لدولة إسرائيل عاملاً رئيساً في استدعاء العرب الإسلام إلى السياسة، وتعويمه على السطح السياسي لمعظم البلدان العربية، إلا أن ذلك لم يكن كل الصورة: حيث كان فشل إيديولوجيات الحداثة العربية «الليبرالية بطبعتها القديمة قبيل سقوطها في تموز/ يوليو 1952 – القومية – الطبعة العربية من الشيوعية السوفياتية»، وخصوصاً تلك التي تولّت الحكم، في تحقيق مهام التحديث والتنمية الاجتماعية وإدخال المجتمعات العربية في العصر الحديث، عاملاً مضافاً في استدعاء الإسلاميين إما كوسيلة احتجاجية معارضة لأنظمة الحكم أو من أجل تحقيق ما عجزت عنه تلك الأنظمة.
هذا ربما، هو ما حصل في القاهرة أو الجزائر، فيما نرى بغداد تعطي صورة أخرى: في 8 شباط (فبراير) 1963, يوم انقلاب البعثيين العراقيين على حكم قاسم المدعوم من الشيوعيين، كان الاصطفاف السياسي والعقائدي لتلك القوتين السياسيتين الحديثتين متموضعاً مكانياً بين الأعظمية والكاظمية، فيما تجسد تخندق المنطقتين المذكورتين من بغداد، في مرحلة “ما بعد 9 نيسان/ ابريل 2003”، بين الأحزاب والهيئات الإسلامية السياسية السنّية “بالنسبة للأولى” وبين القوى الإسلامية السياسية الشيعية للثانية، وهذا شمل عملياً كل مناطق العراق السنية والشيعية، عدا الأكراد الذين يتصرفون كقومية وليس كطائفة.
ربما ساهمت طائفية حكم صدام حسين، كبنية حكم من حيث توزع المناصب ومراكز القرار، في تخلي شيعة العراق عن ميولهم نحو الإيديولوجيات الحديثة، واتجاههم – عملياً منذ السبعينات – نحو”حزب الدعوة” ثم “المجلس الأعلى”، الشيء الذي بلغ ذروته بعد تلك المجازر التي ارتكبت في المناطق الشيعية خلال أحداث آذار “مارس”1991، عندما قطعت تلك الشعرة – التي أظهرتها عملية تغليب شيعة العراق للانتماء القومي على الطائفي في الحرب العراقية - الإيرانية، وهو أمر لم يلاقه صدام حسين بالمثل – بين الشيعة والنظام العراقي، مما كان إيذاناً بسقوط بغداد في 9 نيسان 2003، فيما لم يتحقق سقوط البصرة على رغم مكوث القوات الايرانية في ضواحيها لست سنوات أعقبت انكفاء القوات العراقية عن خورامشهر في شهر أيار “مايو” من عام 1982.
نرى في المشهد العراقي الراهن، كيف يتصدر الشيخ حارث الضاري والسيد عبد العزيز الحكيم واجهة هذا المشهد، فيما كان هناك، في ذلك الصباح المأسوي من عام 1963، علي صالح السعدي «سكرتير البعث، الممتد أساساً في الأوساط السنية، وهو شيعي كردي فيلي مستعرب» في مواجهة سكرتير الحزب الشيوعي العراقي “سلام عادل”، الشيعي الآتي من عائلة أسياد في النجف، والذي كان يضم حزبه من كل الطوائف والأديان والقوميات، وإن كان مع أرجحية واضحة في الامتداد الاجتماعي بين الشيعة والأكراد.
هل يعني ذلك، أن العراق لم يغادر، بعد عصر صدر الإسلام؟ أو أنه يستدعي أجواءه موقتاً، بحكم ما جرى من مفاعيل حكم صدام حسين, هذه المفاعيل التي جعلت المجتمع العراقي منقسماً في الموقف حيال الغازي، ثم تجاه المحتل، وهما محطتان شكّلتا ورسمتا المشهد السياسي العراقي الراهن بتموضعاته، سواء من حيث التلاقيات “الأكراد ومعظم الشيعة”، أو الانقسامات “بين السنّة وبين الشيعة والأكراد”، وهو ما يشمل بامتداداته الموقف من حاضر العراق المحتل “وربما أيضاً الموقف من تجربة ما بعد 1921” وأيضاً مستقبله؟
كيف يمكن للعرب أن يخرجوا من الماضي؟