تختلف الوقائع الجغرافية والعلاقات التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والإنسانية القائمة بين سوريا ولبنان عن أية علاقات بين بلدين عربيين شقيقين، فلا العلاقات المصرية السودانية تشبهها ولا الجزائرية المغربية ولا اليمنية العمانية ولا غيرها، خاصة ما يتعلق منها بتداخل تاريخ التبعية الإدارية والجغرافية والحدود والتجمعات السكانية، فقد كانت بيروت مثلاً تابعة لولاية دمشق وبقيت أقضية بعلبك وراشيا وحاصبيا والبقاع تابعة لهذه الولاية حتى عام 1920.
بعد تفكك الإمبراطورية العثمانية وقدوم الانتداب الفرنسي رفض معظم المسلمين اللبنانيين على مختلف طوائفهم قبول أول دستور لبناني (1926) مطالبين بالانضمام إلى سوريا وعدم الاعتراف بالجمهورية اللبنانية التي أعلنها الجنرال (دي جوفنيل) في العام نفسه، وطالب معظم المسيحيين اللبنانيين إبقاء الوضع كما كان قبل إعلان دولة لبنان الكبير أي المحافظة على متصرفية جبل لبنان ذات الحكم الذاتي تمهيداً لإعلان استقلالها.
وبقي الطرفان على خلاف يزيد أو ينقص إلى أن اتفقا على ميثاق بينهما عام (1943) وهو ميثاق شهير غير مكتوب، شكل صفقة بين المسيحيين بزعامة بشارة الخوري والمسلمين بزعامة رياض الصلح فحواها أن يعزف المسلمون عن المطالبة بالوحدة مع سوريا ويعزف المسيحيون عن المطالبة بدولة مصغرة في المتصرفية مقابل أن يبقى لبنان ذو وجه عربي وأن يتم تقاسم السلطة بين الأديان والطوائف بنسب محددة. وبقي الأمر كذلك حتى الآن مع تعديلات طفيفة أقرت في اتفاق الطائف 1989.
بقيت الرسوم الجمركية (والسلطة الجمركية) والنقد والمصرف المركزي موحدة بين البلدين إلى ما بعد الاستقلال ثم اتجهت الطبقة الحاكمة في كل من البلدين اتجاهاً مختلفاً، فالبورجوازية السورية التي تولت السلطة بعد الاستقلال تبنت سياسة تصنيع سوريا وبالتالي فرض رسوم جمركية مرتفعة على البضائع الأجنبية لتشجيع الصناعة الوطنية، بينما فضلت البورجوازية اللبنانية العمل بالتجارة (الكومبرادور) وكان يهمها تخفيض الرسوم على البضائع المستوردة والاستفادة من سعة السوق السوري.
فحصل الخلاف بين البلدين، ثم قررت الحكومة السورية عام (1950) فرض القطيعة الاقتصادية بين سوريا ولبنان وإقرار قوانين جديدة للاستيراد وفرض رسوم مرتفعة وإنشاء مصرف مركزي سوري مستقل وجمارك سورية منفصلة، وكان هذا أول إغلاق فعلي للحدود، وبداية الانفصال الاقتصادي بين البلدين.
أغلقت الحدود رسمياً أو واقعياً بين البلدين أربع مرات، الأولى بعد القطيعة في عهد الرئيس بشارة الخوري لأسباب اقتصادية صرفة، والثانية في عهد الرئيس كميل شمعون لأسباب سياسية حيث أيدت حكومته حلف بغداد واستقدمت الجيش الأميركي إلى لبنان، والثالثة أيام الرئيس سليمان فرنجية حيث اتُهم لبنان بأنه مقر للمعارضة السورية ومنبر للمثقفين المعارضين.
وهذا هو الإغلاق أو شبه الإغلاق الحالي الذي احتج بأسباب أمنية، وهي مبررات لا مصداقية لها لأنها في الواقع رد فعل على مواقف معظم التيارات السياسية اللبنانية المعادية لسوريا بعد انسحاب قواتها من لبنان. ونلاحظ بالمحصلة أن أسباب إغلاق الحدود الرسمي أو الواقعي كانت اقتصادية مرة وسياسية مرات ثلاث ودائماً بقرار من السلطات السورية.
دخلت القوات العسكرية السورية لبنان عام1976 في العام الثاني لاندلاع الحرب الأهلية بموافقة لبنانية وإقليمية ودولية بعد أن لاحت ملامح بداية انتصار ما سمي (بالقوات الوطنية التقدمية) المتحالفة مع المنظمات الفلسطينية على ما سمي (بالقوات الانعزالية) وكانت أسباب دخولها في حقيقة الأمر عديدة ومتشابكة أهمها عدم الإخلال بميثاق 1943 بعد أن بدا أن ميزان القوى أخذ يتغير لصالح المسلمين، وإيقاف تصاعد قوة منظمة التحرير كي لا يتسع الصراع المسلح مع إسرائيل.
إضافة لأسباب أخرى عديدة. ثم تغيرت الظروف بعد فترة فوجدت سوريا فرصتها في البقاء في لبنان واستخدام وجودها ورقة ضغط إقليمية تفيدها في أكثر من مجال، وتحسبت إسرائيل من هذا الوجود السوري.وخشيت بعض الدول الأوروبية والإدارة الأميركية من أن تسير الأمور بطريق مختلفة عن الاتفاق الضمني متعدد الجوانب مع سوريا الذي أقر قبيل دخول القوات، فحصل عدوان 1982 الإسرائيلي واحتُلت بيروت وخرجت القوات الفلسطينية ثم تم التوصل إلى اتفاق الطائف بعد سنوات.
وبقيت القوات السورية في لبنان رغم ذلك وبموافقة ضمنية عربية ودولية، وازدادت الهيمنة والوصاية السورية عليه، وتوسعت مصالح ضباط الأمن السوريين وبعض رجال السلطة، فأصبحوا شركاء في الحياة الاقتصادية اللبنانية وأصحاب الكلمة الفصل في اختيار النواب والوزراء ورسم توجهات الحكومة اللبنانية، مما أشعر اللبنانيين بأنهم فقدوا استقلالهم وسيادتهم، إلى أن تم أخيراً التمديد بقرار سوري للرئيس لحود واتخذ مجلس الأمن قراره 1559 القاضي بخروج القوات السورية، واغتيل الرئيس الحريري وغيره وحصل ما حصل، وتوحد اللبنانيون تحت شعار الاستقلال والسيادة ومالبث العداء لسوريا أن اصبح (شعاراً وطنياً لبنانياً) وخرجت القوات السورية من لبنان فعلاً.
إن إغلاق الحدود (الواقعي) الحالي والذي لم يعلن عنه رسمياً جاء تحت مبررات لم تقنع أحداً فلا مصداقية لها لا في لبنان ولا في سوريا نفسها، ولاشك أن نتائجه السلبية كبيرة على البلدين اقتصادياً وإنسانياً، ومخاطره كبيرة أيضاً في أن يكون مبرراً لمن يبحثون عن بدائل أخرى (خاصة وأن إسرائيل أعلنت عن استعدادها لتسهيل المرور اللبناني)، وقبل هذا وذاك يشكل انتكاسة حقيقية لمشاريع التعاون الاقتصادي العربي وإقامة تجمعات إقليمية متعاونة، فضلاً عن الشعارات الكبيرة حول التضامن العربي والوحدة العربية والعلاقات الاستراتيجية (وشعب واحد في بلدين) وغيرها.
إن المفارقة فاقعة الآن، فلبنان الذي يشكو من معاناته القاسية من الوجود السوري لا يستطيع الاستغناء عن العلاقات مع سوريا نظراً لأنها تحيط حدوده البرية من كل جانب، وتتشابك المصالح الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية بين البلدين بشكل واسع وكبير، أما سوريا التي ترى أنها خرجت خروجاً مذلاً لا مبرر له ولا تستحقه، فهي لا تستطيع بدورها تحمل النتائج السلبية للقطيعة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية.
كما تعرف مخاطر أن تقطع مع لبنان الذي يمكن أن يصبح عندها مقراً (للعداء) لسوريا، ومركزاً لتصويب السهام إليها والإخلال بأمنها.لعل الطرفين يلعبان الآن لعبة عض الأصابع لأنه لا غنى لأي منهما عن الآخر، تلك هي شروط الجغرافيا والتاريخ والمصالح، ورغم الخط البياني الهابط والصاعد تاريخياً، فلم يحدث أن استحكم العداء بينهما لمدة طويلة.