أشرنا في المقال السابق إلى أن الدافع الإيديولوجي (العقائدي) للاستيطان في فلسطين قد تراجع وتلاشى وحلت محله الرغبة في الحراك الاجتماعي. وهذا واضح في حالة أغلبية المهاجرين من الاتحاد السوفيتي السابق. فهؤلاء المهاجرون لا يؤمنون بالصهيونية أو بأية عقيدة أخرى، كما لا توجد عندهم هوية يهودية واضحة, فهم جماعة بشرية فقدت الهوية والقيم، بعد عشرات السنوات من الدعاية الإلحادية في الاتحاد السوفيتي السابق، وأصبح هدفها الأساسي هو البحث عن المنفعة واللذة في الحياة بشكل إجرائي كفء. ومثل هؤلاء لا يفكرون إلا في يومهم وإن فكروا في مستقبلهم فهم يفعلون ذلك بنفس المعايير الكمية الإجرائية، وهم عادة لا يفكرون في الماضي أو التراث أو الهوية. ولا يحملون أية أعباء أيديولوجية أو أخلاقية، فالمعايير التي يستخدمونها معايير مادية تهدف إلى تعظيم المنفعة (المادية الكمية) واللذة (عادة المباشرة) وتطلعاتهم الاستهلاكية شرهة لا تخفف حدتها أي قيم أو رغبة في التجاوز, وهي تطلعات لا تقبل أي إرجاء. وذلك بسبب غياب أية مثل عليا. وهم يتسمون بحركية غير عادية ورغبة عارمة في تحقيق الحراك الاجتماعي وتحسين المستوى المعيشي دون اكتراث بأية قيم ثقافية أو دينية أو خصوصية حضارية أو أيّ مطلقات معرفية أو أخلاقية تسبب الصداع للرؤوس المادية النفعية الاستهلاكية.
وقد حاول الكثير منهم الهجرة إلى الولايات المتحدة لتحقيق طموحاته المادية الاستهلاكية، ولكن إسرائيل واللوبي الصهيوني نجحا في إقناع الولايات المتحدة بأن توصد أبوابها دونهم. ومن ثم أصبحت إسرائيل بالنسبة لهم هي السبيل الوحيد للخروج من الاتحاد السوفيتي. ولذا، فإن كثيراً من هؤلاء المهاجرين ذهبوا صاغرين إلى أرض الميعاد لا يحملون في قلوبهم أيَّ تطلُّع لصهيون أو أيَّ حب لها. "فهم لا يريدون سماع أي شيء عنها" (على حد قول يوري جوردون رئيس قسم الاستيعاب في الوكالة اليهودية الذي كان مسؤولا عن توطين اليهود السوفييت). بل إن بعضهم ادَّعي اليهودية، ولم يمانع في أن يُختن في سبيل الحصول على الدعم المالي على أمل أن تُتاح له فيما بعد فرصة الفرار من أرض الميعاد الصهيونية في فلسطين المحتلة إلى أرض الميعاد الحقيقية في الولايات المتحدة. وتحاول الدولة الصهيونية من جانبها أن تكبلهم بالمساعدات المالية التي يصعب عليهم سدادها حينما تحين لحظة الفرار.
وقد لخص أحد المهاجرين المرتزقة الموقف بقوله: "لم يكن أمامي خيار سـوى أن أذهـب إلى إسـرائيل بعد أن قضينا سـبعة شـهور في روما". ولكنه أعلن عن تصميمه على عدم البقاء. وقد بدأت الصحف الصادرة بالروسية في إسرائيل بتخصيص مساحة كبيرة يحتلها معلنون يعرضون تزويد القراء بالسلعة التي تطمح لها غالبية المهاجرين الجدد: تأشيرات دخول إلى كندا (أرض ميعاد أخرى مجاورة للولايات المتحدة). وقد وصف أرييه ديري، وزير الداخلية، المهاجرين المرتزقة وصفاً دقيقاً حين قال: إنهم بعد وصولهم ستجدهم جالسين على حقائب السفر. وقال مسؤول إسرائيلي آخر: "بعض ممن لا يمكنهم الذهاب إلى الولايات المتحدة سيأتون إلى إسرائيل بهدف استخدامها كمحطة على الطريق، وسيقومون باستغلالنا أيضاً، وسيأخذون أية خبرات قد نقدمها لهم، وقد ينتهي بنا الأمر إلى أن يتجمع عندنا عدد كبير من الناس الذين يشعرون بالبؤس والذين ينتظرون أول فرصة لينزحوا عن إسرائيل"، فهم يعرفون تماماً "أن إسرائيل بلد صعب وأن الولايات المتحدة بلد سهل بالمقارنة". والسهولة قيمة أساسية بالنسـبة لهؤلاء البـاحثين عن "الراحة والترف".
وقد وصفت إحدى المؤسسات اليهودية المهاجر اليهودي السوفيتي النموذجي (في السبعينيات) بأنه شخص لم يهرب من الاضطهاد وإنما هاجر بإرادته ولدوافع غير عقائدية أصلاً. وذكر بعض المهاجرين الأسباب التي دعتهم إلى ترك الاتحاد السوفيتي، فقال أحدهم: إن الحياة هناك أصبحت مملة. فالهجرة إلى إسرائيل بالنسبة لهم هي مجرد بحث عن الإثارة. وقال أحد أساتذة علم الجبر إنه ترك الاتحاد السوفيتي لأنه أدرك أن الوقت قد حان لأن يفعل ذلك. وأشار مهاجر ثالث إلى أنه ترك الاتحاد السوفيتي لأنه يريد أن يعيش حياة أفضل. وحتى يؤكد مدى عمق التزامه بهذه الفلسفة، ذكر أنه جاء لا ليشتري سيارة ولكن ليكون لديه سيارة بمحرك أكبر. ومن المستحيل أن نعرف كم مهاجراً (سوفيتياً) يشبه "إيفان" الذي ترك إسرائيل بعد أن عمل سنة في "الكيبوتس"، لأنه يكره التعصب الديني والطقس الحار، وكأنه كان يتوقع أن تكون أرض الميعاد في القطب الشمالي أو على مسافة صغيرة من روسيا، أو أن الحركة الصهيونية قد وعدته بأرض ميعاد مكيفة الهواء.
وقد وصف أحد الكُتَّاب الإسرائيليين هؤلاء المهاجرين من الاتحاد السوفيتي (السابق) بأنهم "مهاجرون اقتصاديون"، كما وصفهم آخر بأنهم "هاربون من الاتحاد السوفيتي وليسوا مهاجرين إلى إسرائيل". أما جوليا ميرسكي (عالمة نفس في الجامعة العبرية)، فقد وصفتهم بأنهم "لاجئون وليسوا مهاجرين". ووصفهم كارل شراج (في الجيروزاليم بوست) بأنهم "مستوطنون بالإكراه أو رغم أنفهم".
والمهاجرون السوفييت ليسوا وحدهم من الصهاينة النفعيين الباحثين عن "فوائد" الاستيطان في أرض الميعاد، والذين يريدون توظيفها لا لتحقيق الآمال "القومية" وإنما لتحقيق مصالحهم الشخصية. خذ على سبيل المثال اليهود المسنين الأميركيين الذين يقررون الهجرة إلى إسرائيل والاستيطان فيها حينما يصلون إلى سن التقاعد لأنهم يمكنهم أن يعيشوا حياة مترفة على معاشاتهم الصغيرة (فكأن إسرائيل هي بيت المسنين أو فلوريدا الصهيونية). وهناك، كذلك، اليهود الذين يرسلون جثمانهم ليُدفن في إسرائيل: فهم يرفضون العيش في إسرائيل، ولكنهم لا يرفضون الموت فيها. وعلى حد قول أحد الكُتَّاب الإسرائيليين، فإنهم يعهدون بالجانب التاريخي في حياتهم إلى أوطانهم، أما الجانب الكوني الذي يتعلق بالموت فهم يعهدون به لإسرائيل! والوكالة اليهودية تسبح مع التيار ولذا فهي تقوم بمحاولة جذب أعضاء الجماعات اليهودية للاستيطان في إسرائيل على أسس نفعية محضة فلا تهيب الإعلانات بحسهم الديني أو بارتباطهم بالأسلاف، وإنما تتحدث بشكل صريح عن البيت المريح، أو الإمكانيات الاستثمارية للمستثمرين وإمكانيات البحث العلمي للعلماء.
وتسمية ظاهرة ما هي الخطوة الأولى نحو فهمهما وتفكيكها وإعادة تركيبها. وقد وجدت أن مصطلح "صهيونية المرتزقة" يصف هذه الظاهرة وصفا له قيمة تفسيرية عالية. فالجندي المرتزق لا يؤمن بأي مثاليات، وهو على استعداد للحرب والقتل والقتال بالنيابة عمن يجزل له العطاء، فهدفه هو النفع المادي، تماما مثل هذا المواطن اليهودي الذي يقتلع نفسه من وطنه ويأتي لبلادنا ليحتلها طمعا في العائد المادي الذي تزوده به الدولة. وأليس هذا هو دور الدولة الصهيونية أيضا، التي يصب فيها الدعم المادي الغربي بلا حساب، حتى تقوم بدورها كقاعدة للمصالح الغربية بوجه عام، والأميركية على وجه الخصوص؟.
والله أعلم.