يستحق الحديث المتكاثر عن تسييس التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ان يتوقف المرء عنده مليّاً، لأنه بات واحداً من محركات الموقف السياسي في هذه القضية. المفردات المستخدمة في هذا الحديث تحتاج الى تحليل للغة ومقاصدها، ولماذا تحولت تلك المفردات الى لازمة في التصريحات والبيانات شبيهة باللغة الخشبية التي تطغى على الخطب الدوغمائية.
ومن هذه المفردات مثلاً ان الذين يحذرون من التسييس، ويهددون بالويل والثبور اذا حصل، يشترطون ان يتضمن تقرير رئيس اللجنة الدولية القاضي ديتليف ميليس «أدلة دامغة وقاطعة» في حق من سيتهمهم او يعتبرهم مشتبهاً بهم في الضلوع بالجريمة. يوحي مطلقو هذه المفردات بأن ثمة ادلة لا تكون ادلة، وان هناك ادلة غير دامغة او ان هناك ادلة دامغة، لكنها غير قاطعة، وندخل في سجال لغوي يهيئ من يسعون الى فرضه، لأرضية اعلامية مسبقة، تسمح بالتشكيك بالأدلة لاحقاً. وهو تغطية لموقف سياسي من التحقيق، وليس موقفاً قانونياً بالتأكيد. انه استخدام سياسي للمسألة القانونية ومحاولة تفريغ التحقيق من مضمونه الحقيقي.
يدعوننا مطلقو التحذيرات من التسييس الى ان ننسى انهم افرقاء سياسيون وليسوا جهة قانونية او قضائية، وبالتالي ان لهم أهدافاً من وراء التشكيك بالتحقيق من طريق حديث التسييس كأنهم بذلك يقولون: «نحن ندرك، أنكم تعرفون اننا نعرف من اغتال الحريري، لكن التحدي يكمن في ان تتمكنوا من إثبات ذلك. والأرجح انكم لن تتمكنوا وعليه فإن توجيه التهمة الى المحرضين والمخططين والمنفذين والمتواطئين لن يستند الى وقائع دامغة».
ان التعابير المستخدمة في وصف الأدلة والوقائع المطلوبة، (دامغة وقاطعة) هي التسييس بعينه وهي الوسيلة لنزع معنى «الوقائع» او «الأدلة» عن الكلمتين في عرف المناخ السياسي الذي ينتمي اليه المشككون سلفاً بالتحقيق.
ويقفز الخائفون من التسييس فوق الحديث عن «صفقة» في شأن التحقيق، تعمل لها عواصم كبرى وعواصم اقليمية ولا يحرجهم ذلك فهم لا يعتبرونه تسييساً. ولربما يعتبرونه «تفادياً» للتسييس... ولا يضيرهم ان تخبئ الأمم المتحدة بعض الأدلة الحقيقية كرمى لعيون الساعين الى الصفقة لأسباب سياسية، لعل جهودهم تنجح لاحقاً، في مرحلة المحاكمة، في التوصل الى تسوية ما حول النتائج السياسية لكشف تفاصيل الجريمة و «ادارة» عملية الإدانة وفق خطة لتوقيت الكشف عن المزيد من الادلة وفقاً لمدى انجاز الصفقة او تعثرها...
يمكن فهم مخاوف بعض الذين يحذرون من التحقيق، تحت عنوان التسييس نظراً الى ان لا بد لهذا التحقيق من ان تكون له تداعيات سياسية على بعض القوى وبعض الدول، ونظراً الى صعوبة ضبط هذه التداعيات وآثارها السلبية. وهذا مشروع عند بعض الافرقاء اللبنانيين الذين يقفون ضد الجريمة والذين استهولوا حصولها، ليس فقط على الفريق الذي ينتمي اليه الرئيس الشهيد، بل حتى على لبنان ككل وعلى المنطقة. الا ان مواصلة ترداد العبارة الاخرى التي باتت لازمة هي الاخرى والتي تسأل: من المستفيد من الجريمة؟ لتجيب بطريقة مدرسية، لم تعد مقنعة للرأي العام، بأن اسرائيل هي المستفيدة وانها وراء حصولها.
ألم يصبح ضرورياً محاسبة الذين يرتكبون اخطاء وخطايا تستفيد منها اسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة الاميركية، ويواصلون التغطية على اخطاء كهذه بمثلها وأكثر فتكون النتيجة لمصلحة اسرائيل، باسم العداء لها؟