تتنازع دمشق وجهتان في التعاطي مع الضغوط الدولية عليها كي تتعاون مع التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. واحدة منتعشة ومبتهجة بأن باب التسوية مع المجتمع الدولي قد فتح بصدور المرسوم التشريعي الرئاسي بتشكيل لجنة التحقيق السورية الخاصة في الجريمة، وأخرى تعتبر ان هناك مؤامرة دولية على سورية وأن الاتجاه الأميركي هو لتسييس التحقيق الذي لن يستطيع التوصل الى ادلة قاطعة على ان مسؤولين سوريين متورطون في اغتيال الحريري، لكن واشنطن ستستغل الشبهات من اجل التسلح بموقف يشرّع تصاعد الضغوط المقبلة.
ومع ان الوجهتين تبدوان متناقضتين، فإن ما يجمعهما هو ان في دمشق من يسقط الوقائع على قراءته لمواقف الآخرين ليبرر لنفسه السياسة التي يعتبرها صائبة وليتجنب النظر في السياسة التي تتبعها سورية ومراجعتها وتقويم الأضرار التي تتسبب بها. هكذا يصبح الحديث عن مؤامرة تستهدف دمشق في مجلس الأمن، وسيلة لتفادي البحث في ما يجب عليها القيام به. اما الحديث عن تسوية فيصبح هدفه التأكيد ان المجتمع الدولي يتراجع امام الصمود السوري. وهذان التقديران للموقف، على تناقضهما، لا يكتفيان بالتدليل على الإرباك، بل يؤشران الى ان شيئاً لم يتغير لدى القيادة السورية.
وجديد الوجهة الأولى في قراءة الأحداث ان بعض مصادر الحلقة القريبة من الأوساط الحاكمة في دمشق تعتبر ان ثمة صفقة باتت شبه جاهزة وأن الأمر بات شبه محسوم، بأن سورية ستعتبر ان بعضاً من ضباط الصف الثالث يتحملون المسؤولية عن جريمة اغتيال الحريري، وأن القيادة حددت سقف الذين سيطاولهم هذا الإجراء سلفاً، والذي يمكن ان يشمل تسليم هؤلاء الى لجنة التحقيق الدولية، على ألاّ يمس هذا الإجراء المحيط الضيق للقيادة السورية وبعض رموزها.
وفي تقدير القريبين من الأوساط الحاكمة في سورية ان ثمة عاملين ساعدا على بلورة مكونات الصفقة المقبلة. الأول يتعلق بالتضامن من القوى الفاعلة دولياً وإقليمياً مع سورية. وفي هذا السياق يصنف هؤلاء الاعتراض الروسي والصيني والجزائري على تضمين قرار مجلس الأمن نصاً على عقوبات في حق سورية، ويعتبرون ان تصريحات الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد عن ضرورة إزالة اسرائيل من الوجود من المواقف التي افادت سورية في مواجهتها مع المجتمع الدولي، فضلاً عن ان خطاب الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله ضد قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1559 ومع بقاء السلاح الفلسطيني وإعلان وقوفه مع سورية شعباً وقيادة جاء في سياق حملة مضادة للضغوط عليها تدفع المجتمع الدولي الى التفكير كثيراً قبل اتخاذ اجراءات ضدها، وتجعل الولايات المتحدة الأميركية تخفف من اندفاعتها ضد دمشق، خصوصاً ان هذه الاندفاعة تسبب لها خلافاً مع فرنسا التي لا تريد المغامرة بسياسة تغيير النظام في سورية.
وللوجهة التي ترجح الصفقة الى حد الجزم، صدى في لبنان، حيث يعتبر البعض ان الجانب السوري مهد للصفقة برسالة بعثت بها الحكومة السورية في 6 تشرين الأول (اكتوبر) الماضي الى الأمين العام للأمم المتحدة كوفي انان دعت فيها الى «استئناف عملية السلام (مع اسرائيل) من دون شروط أخذاً في الاعتبار ان قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة لا تشكل أي شروط مسبقة». وهذا موقف جديد يستجيب لطلب أرييل شارون التفاوض من دون شروط مسبقة حتى وإن كانت القرارات الدولية.
الوجهة الثانية عبّر عنها نائب وزير الخارجية السوري السفير وليد المعلم مع بدئه جولته الخليجية، حين قال ان مشروع القرار خطير وبدأ الإعداد له قبل صدور تقرير ميليس، معرباً عن تخوفه من استخدام الوسائل العسكرية ضد سورية، في ظل الاعتقاد بأن دمشق لن تتنازل امام قرار مجلس الأمن المقبل مراهنة على ان التحقيق سيبقى عرضة للتشكيك وأن رئيس اللجنة الدولية ديتليف ميليس لديه استنتاجات وفرضيات لا أكثر.
وفي انتظار معرفة أي الوجهتين سيثبت في دمشق، فإن العادة قضت بأن تنعكس أي وجهة في السياسة السورية في لبنان.
لكن التوقعات تشير الى ان ترجمة أي وجهة في لبنان ستكون واحدة هي التشدد. ففي حال الصفقة، فإن دمشق تعتبر انها تعطيها حرية الحركة اكثر في البلد المجاور، وفي حال تصاعد الضغط الدولي عليها، فإنها ترى الرد عليه على الساحة اللبنانية...