لا شك في أن القراءة المتأنية لتقرير لجنة التحقيق الدولية في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري تؤدي الى الكثير من الملاحظات والاستنتاجات، حول المرحلة المقبلة. فالتقرير، اضافة الى انه يعكس قناعات المحققين الدوليين برئاسة القاضي ديتليف ميليس، بأن الجريمة لم تكن لتتم من دون تورط مسؤولين أمنيين سوريين ومسؤولين أمنيين لبنانيين، ينقل التحقيق، والوضع السياسي الحالي في المنطقة ولبنان الى مرحلة جديدة قد يطول أمدها وستكون حبلى بالأحداث الكبرى.
لا بد من تسجيل استنتاجين مهمين من قراءة نص التقرير:
- الفقرة 22 منه والتي تنص على الآتي: «في وضع هذا التقرير، بذلت اللجنة جهدها لضمان ألا يضر أي شيء تفعله او تقوله بالتحقيق الجنائي، او بأي محاكمة يمكن ان تتبعه. ولا تستطيع اللجنة في هذا الظرف الكشف عن كل العناصر المفصلة والحقائق التي بحوزتها، خارج تشارُكها مع السلطات اللبنانية. اللجنة حاولت وضع الحقائق وتقديم التحليلات لهذه الحقائق بطريقة تشرح في شكل دقيق ما حصل وكيف حصل ومن المسؤول».
وهذا يعني أن ميليس أوضح للذين يمكن ان يلوموا اللجنة على عدم اكتمال المعطيات عندها في بعض جوانب التحقيق ان ثمة معطيات لديه لا يمكنه الإفصاح عنها الآن. وانه يترك بعض هذه المعطيات لمزيد من التحقيق، او للمحاكمة، هذا فضلاً عن ان ما يشارك السلطات اللبنانية به من معطيات ليس كل الذي يملكه منها... وللذين يشككون بتقنية التقرير واحترافه، فإن ذروة التقنية وعدم التسييس هي في تأكيد ميليس في «الاستنتاجات» التي ذيّلت 10 فقرات من التقرير على الاقل، بأن «هذا الخيط من التحقيق يحتاج الى متابعة حثيثة»، او ان «تحقيقاً اضافياً يمكن ان يقدم معلومات عن...» وهي استنتاجات مرتبطة بعناوين عدة (اسلوب التفجير – خطوط الخلوي المستخدمة في العملية – قضية أبو عدس الذي ادعى انه الانتحاري الذي فجر موكب الحريري ودور الموقوف أحمد عبدالعال...). ولربما يريد ميليس القول في ما يخص بعض هذه العناوين انه يخفي الوقائع وينتظر الوقت الذي يحدده هو لكشفها.
- ان ميليس وجه رسالة الى الجانب السوري عبر عدد من الفقرات التي يهدف منها الى القول ان لديه ما يدحض ما قاله المسؤولون السوريون الذين استمع اليهم الشهر الماضي. وفي هذه الفقرات يمكن ذكر الحوار المسجّل بصوت الشهيد الحريري بينه وبين نائب وزير الخارجية السوري السفير وليد المعلم (الفقرة 27 والفقرة 28). فالشهود السوريون نفوا ما قاله شهود لبنانيون عن الحوار الساخن بين الحريري والرئيس بشار الاسد في تلك الجلسة الشهيرة في 26 آب (اغسطس) 2004 حول قرار دمشق التمديد للرئيس اميل لحود. لقد أراد ميليس الذي اعتبر في الفقرة 25 «الصراع الكبير الواضح بين الحريري والمسؤولين السوريين الكبار بمن فيهم الرئيس بشار الاسد جزءاً محورياً في المعلومات»، ان يبلغ دمشق ان لديه قرائن تدحض افادات الشهود السوريين وعرض نماذج منها، لعله يقنعها بتغيير اسلوبها في التعاون مع التحقيق الدولي...
في المقابل، كانت ردود فعل المسؤولين السوريين متناقضة. مرة قالوا ان ميليس يكذب وأخرى قالوا انهم سيتعاونون معه. مرة قالوا ان التحقيق مسيّس ثم نفوا ان يكونوا قالوا ذلك. ومرة قالوا ان كان عليه إكمال التحقيق وعدم إصدار تقرير ثم ربطوا صدوره بالضغوط الدولية على سورية لتغيير موقفها من العراق وفلسطين و «حزب الله» في لبنان. إلا ان الاخير اضطر ان يشارك في جلسة مجلس الوزراء الاخيرة في قرار الترحيب بتقرير ميليس واعتباره خطوة متقدمة ومهمة على طريق كشف الحقيقة.
فوق كل ذلك هل كانت دمشق في حاجة الى تذكير الناس بالمدى الذي كانت تدهورت اليه علاقتها مع الشهيد الحريري، عبر تكرارها الهجوم على نجله النائب سعد الدين الحريري بعد اعلانه التزامه نتائج التحقيق الدولي، ورفضه استخدام التحقيق للاقتصاص من ساحات اخرى (قصد فيها سورية)؟
فاللغة المستخدمة ضد الحريري الابن لا يبررها أي منطق تماماً مثلما لم يكن أي عقل يبرر الحملات التي كانت تحصل ضد الأب.