دأب سياسيون ومحللون وصحافيون ـ عرباً وأجانب ـ على تكرار اصطلاح (الحلف السوري الإيراني) حتى كاد هذا المصطلح يعتبر من البديهيات التي لاشك فيها تكرره معظم وسائل الإعلام إن لم تكن كلها دون تردد معتبرة أنه الحلف المواجه لحلف آخر من (المعتدلين العرب) وعلى رأسهم مصر والسعودية بدعم أميركي وأوروبي، وكاد المتلقي العربي والعالمي يقتنع أن إيران وسوريا أقامتا حلفاَ موحد الأهداف والاستراتيجية والوسائل يتممه تعاونهما مع حزب الله في لبنان
مما يشكل جزءاً مما أطلق عليه اسم (الهلال الشيعي) ذي المرجعية الطائفية والأهداف الطائفية، والذي من شأنه أن (ينبش) من أعماق التاريخ صراعات طائفية عمرها أربعة عشر قرناً ويسيسها ويستفيد منها لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية معاصرة ويجعل من إيران خاصة دولة إقليمية كبرى لها الحق بالهيمنة على دول المحيط العربية والآسيوية والمشاركة في تقرير مصيرها.
فهل العلاقة السورية الإيرانية بلغت حد التحالف وهل تتطابق فعلاً الأهداف والاستراتيجيات والوسائل السورية الإيرانية مع ما يقتضيه التحالف، وماهي المصالح السورية (سواء مصالح النظام أم مصالح الدولة) التي تتحقق نتيجة إقامة هذا الحلف وما هي بالمقابل الأعباء المترتبة على سوريا جراءه؟
لا ينكر المسؤولون السوريون تعاونهم مع إيران وتنسيقهم مع السياسة الإيرانية بشكل عام وهم يصرحون في كل مناسبة بوجود علاقات استراتيجية (وليس حلفاً) بين سوريا وإيران، فالبلدان يتبادلان الرسائل والرأي والوفود وغيرها، ولكن هذا كله برأيهم لا يكفي للقول بوجود حلف بينهما، فعند التدقيق في تفاصيل السياستين السورية والإيرانية تجاه القضايا الساخنة في المنطقة تلاحظ الفروقات الكبيرة بين موقف كل منهما من هذه القضايا والتي قد تصل إلى درجة التناقض في بعض الأحيان.
تأسست العلاقة السورية الإيرانية بعد قيام الثورة في إيران عام 1979 وعندما أفصحت الثورة عن رغبتها بتصدير نفسها لدول الجوار وهذا ما ظنه البعض على الأقل بدأت الحرب العراقية الإيرانية واصطفت السياسة السورية آنذاك إلى جانب الثورة الإيرانية بحجة تهدئة العداء بين الدول العربية وإيران، وفي الواقع كان الموقف نكاية بالعراق وعداء له وأملاً بأن تسقط الحرب نظام صدام حسين،
لكن السياسة السورية تلك التي قادها بمهارة الرئيس الراحل حافظ الأسد أبقت دائماً مسافة بينها وبين السياسة الإيرانية يمكنها من خلالها أن تنتصر لبعض القضايا العربية وأن تؤكد استقلالية قرارها في الوقت الذي استفادت فيه من العلاقات الاقتصادية مع إيران في زمن كانت الحاجة السورية ملحة للمساعدات الإيرانية متعددة الجوانب، وهكذا ربحت سوريا اقتصادياً ولم تخسر عربياً وبقيت محافظة على قرارها المستقل.
إن الظروف مختلفة الآن كلياً، فقد قويت شوكة النظام الإيراني وأصبح يتطلع إلى دور إقليمي فعال لا يخلو من الطموح للهيمنة، وأقام شبكة من القوى الداعمة له في بلدان المنطقة المحيطة العربية والأجنبية، وتعافى اقتصادياً وقوي عسكرياً، وبعد الاحتلال الأميركي لأفغانستان انتزع النظام الإيراني دوراً في أفغانستان معتمداً على أسس طائفية،
كما صار القوة الرئيسية المؤثرة في شؤون العراق بعد الغزو الأميركي حيث حكام العراق الرئيسيون من أنصار إيران فضلاً عن علاقته المتينة جداً بحزب الله في لبنان وبحركة حماس الفلسطينية وصار لإيران سياسة واضحة ومواقع متجذرة في هذه البلدان، فأين موقع السياسة السورية من كل ذلك؟.
باختصار شديد ربما يخطئ من يعتقد بتطابق السياستين الإيرانية والسورية تجاه قضايا المنطقة الرئيسية وخاصة الساخنة منها، فمازالت السياسة السورية حذرة جداً تجاه قبول حكم العراق من قبل الميليشيات المتحالفة مع إيران إن لم تكن متناقضة معها وتترك دائماً مسافة بينها وبين هذه الميليشيات، وهي في الوقت نفسه حريصة على وحدة العراق لأن تقسيمه يهدد أمن سوريا، ومازالت ترى في المقاومة العراقية مقاومة مشروعة في مواجهة الاحتلال، ومن المعلوم أن الموقف الإيراني مختلف أو متناقض مع الموقف السوري تجاه هذه القضايا.
ومن جهة أخرى تحرص سوريا على عدم تفجير الوضع الفلسطيني وتعتبر الوحدة الوطنية الفلسطينية عاملاً مساعداً يضعف الموقف الإسرائيلي بينما ترى السياسة الإيرانية أن المقاومة الفلسطينية المسلحة هي الحل الصحيح حتى لو أدى ذلك إلى تفجير الداخل الفلسطيني، إضافة إلى أن سوريا تسعى لاستئناف المفاوضات مع إسرائيل وهذا مالا تراه إيران وربما تستنكره ضمناً،
والخلاف قائم بين الموقفين حتى في لبنان إذ أن السياسة السورية تعمل لنسف تشكيل المحكمة ذات الطابع الدولي المتعلقة بمحاكمة قتلة رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري لأنها بنظرها محكمة مسيسة وستكون لاحقاً وسيلة بيد الولايات المتحدة لمحاصرة سوريا وربما معاقبتها وإضعاف نظامها،
بينما لا تمانع إيران من حيث المبدأ بإقامة مثل هذه المحكمة ضمن بعض الشروط ومقابل (صفقة) ما مع الولايات المتحدة. وهكذا فالموقفان السوري والإيراني متباينان حتى في لبنان مع اتفاقهما على دعم حزب الله كل لأسبابه، كما أن السياسة السورية ليست راغبة في هيمنة إيرانية على دول الخليج وليس في اهتمامها دعم إيران لتكريس دورها كقوة إقليمية كبرى.
يبدو أن سوريا التي (حوصرت) عربياً ودولياً وجدت مخرجاً لها في ما يسميه البعض العلاقات الاستراتيجية مع إيران، فالموقف هو استقواء بإيران أكثر منه تحالفاً معها، خاصة وأن العلاقات الاقتصادية بين البلدين ليست مغرية كثيراً لسورية، فالاستثمارات الإيرانية في سوريا لا تتجاوز المليار دولار،
والميزان التجاري السوري الإيراني عاجز بشكل فاضح لصالح إيران التي تزيد قيمة صادراتها إلى سوريا عشرين ضعفاً عن مستورداتها منها ومازالت العلاقات العسكرية ـ رغم كل المزاعم ـ متواضعة ولكن لأن إيران من الدول القليلة التي تنتصر لسورية وتدعمها وتتشاور معها، فما على هذه إلا إقامة علاقات معها والتأكيد على أنها علاقات استراتيجية وهي في الواقع كذلك حتى الآن رغم التباينات.
مهما كانت العلاقات السورية فاترة مع بعض البلدان العربية المؤثرة، فإن السياسة السورية تدرك جيداً أن عمقها العربي وتضامن العرب معها وتضامنها معهم لا يعوض عنه التعاون مع إيران مهما اتسع وتشعب وتعمق، وفي الحالات كلها يبدو لي أنه تحيط بالعلاقات السورية ـ الإيرانية اختلافات عديدة يصعب معها أن تصل إلى درجة التحالف.