النهار / سمير عطا الله
فاز نيكولا ساركوزي، ابن مهاجر من بقايا الاريستوقراطية المجرية، برئاسة فرنسا بموجب قانون الانتخاب المباشر الذي أطلقه شارل ديغول عام 1965. وفي الثامنة وبضع ثوان من مساء الاحد، أعلنت منافسته سيغولين رويال قبول الهزيمة. وعليها، كما على سائر المرشحين، ان تنتظر خمس سنوات أخرى. فالدستور في فرنسا هو شرف الأمة وعنوان الجمهورية، وعلى الخاسر في الاقتراع ان ينتظر ويعمل بأحكام مبدأ التناوب. فقد وضعت الدساتير من أجل حماية السلطة من الشبق ومحاولات الاغتصاب.
قرر ديغول اللجوء الى الشعب لانتخاب الرئيس عندما تطلع حوله ورأى فرنسا موحّدة، التأمت جروحها وتجاوزت محنة الانقسام حول الجزائر. ورأى بلدا مزدهرا، سدد الديون المترتبة عليه منذ الحرب قبل أعوام من الموعد المفترض. ورأى بلدا انتقل على يديه من عثرات النظام الاقتصادي البالي والعصر الزراعي الى بلد صناعي منافس، يستقبل ايضا أكبر عدد من السياح في العالم، ويعتبر السياحة موردا ودخلا أساسيا لاستقلاله ورفاه أهله، وليست عيباً ولا طعناً في شرفه.
فشرف الجمهورية كان في مكان واحد: الدستور! والكاتب مارسيل بانيول كان قال ذلك القول الذي ردده يوسف بك وهبه بصوته العميق: "شرف البنت يا هانم زي عود الكبريت، ما يتولعش غير مرة واحدة". لا يكف الحرصاء على لبنان ودستوره عن الدعوة الى تعديله، لمرة واحدة. وللوهلة الاولى تبدو دعوة الناس الى انتخاب الرئيس شيئا جميلا، اما في التفاصيل وفي الحقيقة فهي مدخل آخر الى الفجيعة الوطنية. فالذي يطلب من الناس انتخاب الرئيس مباشرة، كما في الجمهورية الفاضلة، يفرض عليهم في الوقت نفسه ان يكون الرئيس من طائفة واحدة ومذهب واحد.
وبالتالي فهذا تشريع للديكتاتورية القائمة على الغاء حرية الخيار. وهذا يجعلنا أقرب الى ديموقراطيات العراق من ديموقراطية فرنسا، حيث فاز الرئيس الراحل صدام حسين بمئة في المئة من الاصوات، أمواتا وأحياء وأجنّة، وحيث كان ممنوعا على أحد سواه الترشح وإن للزكام، وحيث كان هو الرئيس، وهو القائد، وهو الجيش والشعب، وهو الهزيمة العسكرية الدائمة التي تجرجر خلفها مليون قتيل وترفع شعار النصر، بالسبابة والوسطى.
ليس في تاريخ أي شعب، بالغا ما بلغت مذلته، شيء يدعى "تغيير الدستور لمرة واحدة". فالحق الذي تعطيه للناس، او بالاحرى الذي يحق لهم، لا يمكنك ان تجردهم منه إلا في الدول الدمى (البوليشينيل) حيث من هم أمام الستار لا شأن لهم سوى التحرك بخيوط من خلف الستار. وبما ان الدول عبارة عن أنظمة ومؤسسات وتراث واستقرار غير متقطع ولا مرهون، فإن القوانين تُسن وفقا لخير الجماعة وحماية الدولة. وقد دعا ديغول الى الانتخاب المباشر في نظام رئاسي، الرئيس فيه هو الحَكَم، وهو صاحب الحكم. وحيث يكون مركز الحكم يكون الاستفتاء او الانتخاب المباشر، أما حيث الرئيس في الدستور ليس سوى صيغة اعتبارية واحتفالية، فلا تجوز الهرطقة والخداع، وإن تكبد الناس عناء اختيار رجل تُرَدُّ قراراته وخطواته وآراؤه وتصبح لاغية حتى من دون الاضطرار الى اشارة الى ذلك.
وينص الدستور على ان الحكومة يمكن ان تجتمع برئاسته وتوفر على نفسها عناء الذهاب الى بعبدا في زحمة السير.
لذلك يتم الانتخاب بالشعب أجمع على المنصب المكلف رئاسة الادارة التنفيذية. وهو في المانيا، مثلا، منصب المستشار، وفي دول اخرى منصب رئيس الوزراء. أما المناصب التي جردها الدستور من القرار التنفيذي الاخير، كما جردت الحرب الاهلية ونتائجها الرئاسة اللبنانية، فلماذا العناء في دعوة الشعب الى الاحتفال بما لا يدعو الى ذلك؟
لقد شنت الحرب في الدرجة الاولى من أجل تغيير الدستور والغاء الميثاق. ولبعض الزعماء كلام مدوّن في الابتهاج بسقوط الميثاق الوطني الذي اطلقت النار عليه من كل المفترقات والخنادق. واصبحت صلاحيات الرئيس مسألة استنسابية تتسع وتضيق وفقا لما هو معطى من قوة وليس من صلاحيات. وقد اشتهر عن الرئيس عمر كرامي انه اراد في ذكرى الاستقلال ان ينفخ له بالبارازان وتدق له المزاهر، اسوة برئيس الدولة. وكادت ازمة تكون. وترك للرئاسة البارازان يدق لها وحدها في يوم العرض ويوم العيد.
لا ادري الآن ما هي الحاجة للعودة الى تعديل الدستور (تاني؟) ونحن لم نتوصل يوما الى تعريف بند واحد من بنوده. ثم اننا مختلفون، حتى القتال، على تفسير احكام الديموقراطية. وعلى سبيل المثال يقال ان الاكثرية مزورة، جاءت في ظل مشروع انتخابي قاهر لا يريده احد. اتفقنا؟ نعم، اتفقنا! ولكن بالحدة نفسها، وفي اللحظة نفسها نقول اين هي حصة الاقلية النيابية من الحكم؟ واين هي بالتحديد حصة النواب العونيين الذين يشكلون اكبر كتلة مسيحية في البرلمان؟
كيف يكون القانون نفسه والانتخابات نفسها والنتائج نفسها، زوراً هنا وحقاً هناك؟ ويوم اي، يوم لأ. وينادي عدد من الساسة في بعض الايام بالديموقراطية "التوافقية"، ولا يعرف احد كيف تكون الديموقراطية "توافقية" ما دامت ديموقراطية. ولكن فلنقل بذلك في اي حال. فالمطلوب ليس شرح ما لا يُشرح بل انقاذ البلد واخراجه من هذا الضنك. غير اننا فوجئنا بزعيم الموارنة المبشّر بالتوافق بين القوى اللبنانية يقول إن من احكام الديموقراطية (وربما من ابتهاجاتها) ألا يتفق المسيحيون. ذلك انه، اي الاتفاق يا صاحب السعادة، مناقض للديموقراطية كما يقول النص الذي اتمنى اننا لم نفهمه جيدا، كما يقال عند الوقوف على كل قول مثل هذا القول. الشعب الغشيم لا يفهم القول العظيم.
ما هي الحاجة الآن الى تعديل جديد للدستور، والى قانون جديد لانتخاب رئيس الجمهورية؟ اننا منقسمون حتى العظم، وفقا لتعبير الراحل علي صالح السعدي، على قانون انتخاب النواب منذ سنوات وعقود، فكيف يمكن ان نعدّل الدستور (لمرة واحدة) ونسن قانونا جديدا لانتخاب الرئيس خلال اسابيع؟ واي هيئة تفعل ذلك اذا كانت الحكومة غير شرعية والبرلمان مغلقا للتحسينات؟ ومن بقي في لبنان من شباب كي يقترع؟
لا شك في ان العماد عون نقل الفكرة من فرنسا، حيث أمضى 11 عاما في ضيافة جاك شيراك وحمايته، وحيث احتضنت فرنسا حريته السياسية بينما قرر الآخرون عزله، وانقطع عن زيارته او القاء التحية عليه قطاع كبير من اللبنانيين، وكان ممنوعا حتى من مصافحته. ولم يتوقف الجور على العماد عون بابعاده من القصر الجمهوري الى السفارة الفرنسية ومحاصرته فيها طوال عشرة اشهر تقريباً، ثم نفيه بلا اي مظهر من مظاهر الكرامة الوطنية التي يستحقها كقائد للجيش، بل امتد الى منفاه حيث كانت مقاطعته فرضاً ومحاورته خيانة. وفي بيروت نفسها تم تحويل الرجل من طالب تحرير وطني الى صاحب ملف مالي يلوّح به كلما فكر الرجل في العودة الى ارضه وبيته.
طبعا السياسة ليس لها وجه واحد. انقلبت الاشياء ما بين بيروت وباريس حتى اصبح جاك شيراك عدواً واعداء الامس حلفاء لا يرتضون رئيساً للبنان الا العماد العائد. وما دامت الرئاسة متعذرة وفقا للدستور، فليعدل الدستور من اجله كما عدّل من اجل سواه، لمرة واحدة، رجاء.