اتهم المؤرخون العرب اتفاقيات سايكس بيكو، بتفتيت أوصال الأمة كما كانت في ظل الإمبراطورية العثمانية. فقد أقيمت دولة إسرائيل، وألحقت أراض وأقاليم بدول لم تكن قائمة من قبل، وشرد الفلسطينيون من أرضهم. وكان ذلك فظيعاً.
لكن مجموع ما شرد الاستعمار وما قسم وما بدد، لا يساوي شيئاً بما سببه العصر الوطني أو القومي. ومقابل كارثة التشرد الفلسطيني هناك الآن فلسطين في كل أفق. وكان أفق القضية الفلسطينية مسدودا، فأصبح الأفق العربي برمته مغلقاً. وكانت «وكالة غوث اللاجئين»، تعجز عن العناية ببضعة آلاف، فأصبحنا لا غوث يقدر على العناية بملايين اللاجئين. وكان العرب يترحلون في بلدهم وديارهم، فأصبحوا يترحلون في كل بلد ويستلهفون أي ديرة أو ديار. غريب أن الذين يقسمون ويفتتون هم حملة لواء الوحدة. ومروع أن العنف الاستعماري وفظاظة الانتداب وخبث المؤامرة، لم تصل في أي مرحلة إلى ما وصل إليه وحققه وأنجزه العنف القومي والفظاظة الوطنية. وكان الخبث التآمري يحاول إخفاء مخططات التقسيم، فأصبحت الفجاجة الوطنية تعلنها وتبررها وتصورها على أنها الحل القومي الأخير.
ومَن يدعي أنه يعرف لماذا وصلنا إلى هنا، فهو إنما يدعي. ومن يزعم أنه يعرف إلى أين نحن ذاهبون، فهو يبالغ في الادعاء. فهذه كرة ثلج تتجمع في مكان ثم تتدحرج على أمكنة كثيرة. والتقسيم النفسي وباء لا حالة معزولة يمكن حصرها في «كرنتينا» تقام على الحدود ويتم حجر المصابين فيها. بل ما يجري هو أسوأ من وباء. إنه لوثة مخيفة تلطخ بالدماء أبواب ونوافذ وأعتاب الأمة. وقد عمت اللوثة بحيث أصبح الحديث عن الإنقاذ والوئام يبدو وكأنه قادم من زمن آخر وعالم آخر.
إن انهيار الوحدة على هذا النحو الانحطاطي الشديد التدهور، يجعل الكلام عن التقسيم أمراً عادياً، أو مألوفاً. وفي مثل هذا المناخ الرديء من السقوط النفسي، يصبح أي عمل مقبولا. ولا يعود أحد يرى الظلام الداهم، لأن ميزة الظلام أنه لا يُرى. فهو فقط يعم. وهو يحجب كل ضوء. وهو يعطي الفرصة لأهل الظلام أن يقفوا في وسط العتمة ويصرخوا أن التنوير اختراع استعماري والضوء عمل إمبريالي والمستقبل جريمة والحياة إدانة يجب استبدالها بالموت.
ها هي الأمة تنسل من بين أصابعنا قبل أن تقوم. والذين دعوا إلى وحدتها ونهضتها أصبحوا لا يذكرون إلا كي يشتموا، والملثمون يخرجون كي يدوسوا صور الرواد والرموز النضالية. وأصبح أسهل على العرب أن يعلنوا دولة من أن يشكلوا حكومة. ونحن نتدهور إلى ما هو دون العالم الثالث والدولة الساقطة بكثير، متزحلقين نحو الحالة الأفريقية المريعة، فيما تقفز بقية آسيا في اتجاه مرتبة العالم الأول. الهند تحمي، بالديمقراطية، وحدة من مليار إنسان وست لغات رسمية. والصين تحمي بالازدهار، وحدة من مليار وربع المليار منتج شغيل عراق، ليس بينهم ثرثار واحد.