اخبرنا "محلل سياسي" مبالغ في الموضوعية وفي موت العصب ذات يوم من الصيف الماضي، انه كان هناك مشروع لتفجير قنبلة ذكية في "أ ب ث" تقتل نحو 350 شخصا، على الاقل، دفعة واحدة، فيؤدي ذلك الى رعب رعوب وخوف نهائي، فينهار الأمن، ويسقط البلد ويتهاوى كل شيء بلا امل في قيامة.
شكرنا الخالق على ان موضوعية المحلل السياسي وموات كل عصب وشرش فيه، لم تتحقق، ولكن بعد انفجار مساء الاحد الماضي، كان علينا ان نعيد النظر. فالذين فجّروا محيط الـ"أ ب ث" كانوا اكثر رأفة بكثير من صاحب المعلومات المسبقة: ليس من الضروري اطلاقا ايصال الرقم الى 350 قتيلا زائد الجرحى. فاذا تزامن سقوط رجال الجيش في التل مع رواد المقاهي في الهواء الطلق، امكن بسهولة تخفيف او تقليل جنازات الرواد. ذلك ان مشهد الجنازات العسكرية كفيل بكل شيء.
ماذا اكثر من ان تقتل 23 عسكريا في يوم واحد وساحة واحدة؟ أي جيش في العالم يستطيع تحمل مثل هذه النكبة؟ فعندما يقتل عشرة من جنود الاحتلال الاميركي في العراق في يوم واحد، تهتز اميركا، فكيف اذا قتل ضعفا هذا العدد من افراد جيش وطني في مدينة كان احد زعمائها قبل يومين فقط، الافندي عمر عبد الحميد كرامي، يقول ان اقتراح هدنة كلامية لمئة يوم، هو اقتراح سخيف، وان الهدنة نفسها هدنة سخيفة. لن ينام عمر أفندي على ضيم.
كثيرون يميلون الى عدم اخذ كلام عمر عبد الحميد كرامي على محمل الصدق. فقد يكون الرجل حادا لكنه بالتأكيد لا يعني ما يقول. انه مصاب بداء العسر او العثرة. كلما قال شيئا وقعت الطاولة وتحطم الاناء. هو الذي قال مرة في تقديم حكومته الى الناس "ليس بالامكان احسن مما كان". وهو الذي قال "سوف يصل الدولار الى ثلاثة آلاف ليرة" فأحرق اقتصاد البلد وأُحرقت حكومته بالدواليب. وهو الذي استقال واقفا بعد اغتيال رفيق الحريري. وهو الذي كان يحتفي الاحتفاء الكبير بعبد الحليم خدام عندما سقط نائب الرئيس السوري على منصة المضيف العزيز.
بدا حريق طرابلس يوم الاحد مجرد مشهد صغير في حريق الشرق الاوسط. وفي هذا الحريق تبدو كل هدنة "سخيفة" كما تفضل نجل عبد الحميد كرامي، قرير العين، هادئ الضمير. فالمنطقة كانت تولّع ثيابها من اجل ان تحتفل بالانتصار. والعراق كان يعلن عيدا رسميا للموت. فلا حياة بعد اليوم. والمطالبة بالحياة خيانة. وفي فلسطين احرق الفريقان (فقط؟) اتفاق القسم في مكة، من غير ان ينسيا التنديد بالصهيونية. وعندما تدخلت اسرائيل فريقا ثالثا بصواريخها، بدا الامر روتينيا عاديا، مجرد طرف ثالث في شراسة ليس اقبح منها سوى الاعتداء على الجيش اللبناني في طرابلس.
لم يحدث خلال الحرب الاهلية العربية في لبنان ان فقدنا 23 جنديا في يوم واحد. او حتى في شهر واحد. لقد كانت للجيش – حتى في ذروة انقسامه – هيبة ليس من السهل استباحتها. وحتى في عزّ انقسامه، بين عماد في الشرق ولواء في الغرب، ظل الجيش حصنا وطنيا لا يمس بمثل هذه السهولة وهذا الاستسهال وهذه الجرائمية المعلنة.
يخرج الجيش ناجيا من جميع المحن والتجارب التي تعرض لها منذ 14 شباط 2004. وينجح في البقاء على مسافة واحدة من الاهالي. ثم فجأة يفيق ليرى امامه 23 نعشا بنيران اطلقها اليمنيون والعراقيون وطبعا الطرابلسيون من جيش الله ومؤمنيه والعاملين بفرائضه. هل هذا هو لبنان؟ لِمَ لا؟ طبعا هو لبنان. وفي هذا اللبنان كانت الدولة كلما اعتقلت مجرما او شاذا او نصابا او فَقَّاءَ اعين، قامت الدنيا وطولبت بالافراج عنه فورا، لسببين لا يردان: الاول انه وطني عروبي، والثاني انها خائنة وعميلة. ناهيك طبعا بانها فاسدة، تشق الطرق، وتعيد بناء ما تهدّم، ويزين لها ان تقفل الحدود في وجه العائدين من عملية انقاذ العروبة في جبال قندهار وتورا بورا.
اسمعوا ايها السادة،
الاعتداء على الجيش اللبناني، المؤسسة الاخيرة الباقية في البلد المتهاوي سريعا نحو التفكك الكلي، ليس فقط اعتداء على لبنان، فهذا بلد استباحه بنوه وسياسيوه وبائعوه بالجملة والمفرق. وهذه – البيع – عادة قديمة ومعتادوها كثيرون، ومتنوعون، ولدى كل منهم اطروحة جاهزة في تبرير كل صفقة، بما فيها الصفقات مع اسرائيل. غير ان الاعتداء على الجيش هذه المرة، واستباحة كرامته وارواحه بمثل هذا الفجور وهذه الوقاحة وهذه اللامبالاة، انما هو اعتداء على ما بقي من اخلاقيات وعلى من تبقى من اخلاقيين في لبنان.
وليس صحيحا ان قضية الجيش اللبناني هي قضيتنا وحدنا، بل هي قضية كل عربي، وخصوصا قضية كل فلسطيني من الذين عشنا معهم، او خضنا معهم احدى اخطر المحن في تاريخنا وفي تاريخهم. ولم يعد يجوز ان يكون فريق منهم – مهما كان مزورا او زائفا – هو الستار او القناع لاشعال حرب اهلية عربية جديدة فوق ارض لبنان. فلديهم ما يكفيهم في فلسطين، ولدينا ما يكفينا في لبنان.
واذا كان لا بد من حرب اخرى في هذه الساحة المسكينة والمستباحة، فلا شأن لهم بها، تحت اي اسم او تحت اي قناع. فقد كثرت في المنطقة الاسباب والحجج ولم يعد احد في حاجة الى الذريعة الفلسطينية لانهاء اي بلد من البلدان العربية. فطريق فلسطين تمر في غزة، وانتم ترون ماذا يحصل في غزة. والطريق الوحيدة التي تمر من طرابلس والتل وباب التبانة هي طريق الامن والهدوء في طرابلس، ومنها في لبنان، وفي بيروت، وفي صيدا. ذلك اننا لا نعرف اي عنوان ستختار "فتح - الاسلام" غدا كي تضرب لبنان وقد بدأت حربها الماضية من عاصمة الشمال، وربما حباً بتغيير النكهة تبدأ الحرب الآن من الشمال، او من تلال الـ"أ ب ث" حيث آخر مكان للالتقاء والحياة في العاصمة.