يجيء تعيين طوني بلير ممثلاً للرباعية، الموكول اليها التفاوض من اجل حل النزاع الفلسطيني – الاسرائيلي، بمثابة اضافة استفزازية للشعب الفلسطيني تثير مشاعر الشعب العربي في مختلف أوطانه.
اننا نؤكد هذا الواقع على رغم تصريح "كبير مفاوضي" السلطة الوطنية الفلسطينية صائب عريقات ان الفلسطينيين يؤيدون بكل قوة تعيين بلير، مما دفع الصحافية السائلة الى القول باستغراب: "انه يكاد يكون الاستثناء الوحيد" في الاجماع العربي. وحبذا لو كان كذلك، اذ ان اصواتاً عربية شاركت الأخ صائب عريقات في التشويش على توافق عربي، ليس لمجرد أن بلير سياسي بارع بل لانصياعه الكامل لقرار الرئيس جورج بوش غزو العراق وامعانه اللاحق في التسويق ثم التبرير، وان بلغة انكليزية افصح، للاكاذيب والتلفيقات التي رافقت حرباً أمعنت في تدمير العراق وفي قتل شعبه وتشريده، وكل هذا يشكل استفزازاً بكل ما تنطوي عليه هذه الكلمة من معانٍ... ومعاناة.
واذا ارتأى الرئيس جورج بوش مكافأة حليفه الصغر بعد اعفائه، أو استقالته، فيبقى أن "إنجاز" محور بوش - بلير في العراق قد يتحول عبئاً كبيراً اضافياً على الشعب الفلسطيني وحقوقه. وكأن الفلسطينيين لا يكفيهم من مآسٍ وما تمعن فيه اسرائيل من "روتنة" لاستباحة حقوقهم في الحياة، ناهيك بحريتهم في تقرير مصيرهم باشراف "الرباعية" وإن لم يكن برعايتها المباشرة فبإهمالها المقصود كل القرارات الدولية ذات الصلة. كيف لا وقد تحولت الرباعية آلية ضغط على الفريق الفلسطيني في مقابل تساهلها المعيب مع الطرف الاسرائيلي. والا كيف نفسّر المفارقة العجيبة التي تمثلت بدفع الفلسطينيين تحت الاحتلال الى خوض انتخابات ما كادت تأتي بنتيجة لم تتوقعها "الرباعية" حتى اندفعت بدون تردد وفي شكل تلقائي هو بمثابة وصمة عار عليها لفرض حصار قاسٍ وخانق على حكومة "حماس" التي نتجت من الانتخابات. مما دفع الرئيس الاميركي الاسبق جيمي كارتر الى وصف الاجراءات القمعية بأنها "جريمة"، كما ان الممثل السابق للرباعية وولفنسون أبدى استياء من السلوك العام لـ"الرباعية" لكونها كانت غطاء لسياسات الافقار والاذلال لفئات واسعة من شعب فلسطين. كما ان هذه الرباعية كانت بمثابة شاهدة (زور؟) على مسلسل الاعتقالات لوزراء واعضاء في المجلس الاشتراعي المنتخب، ناهيك باعتماد سياسة الاغتيالات والتعامل مع مقاومي الاحتلال كأنهم متمردون على شرعية ملكية اسرائيل لاراض تحتلها!
ولعل العيب الرئيسي ليس هو في الهيمنة الاميركية على الرباعية لكون سمة التحيز العلني والقوي لما تريده اسرائيل هو في منتهى الوضوح وبخاصة في المرحلة الطويلة التي كان فريق المحافظين الجدد يعزز فيها شراسة هذا التحيز، بل في وجود الامين العام للأمم المتحدة - كوفي انان سابقاً وبان كي - مون حالياً - في تركيبتها، باعتبار ان وجوده فيها يعني مساهمة قراراتها وتبنيا لها وهي التي تتناقض مع الشرعية الدولية المعبّر عنها في قرارات الأمم المتحدة، والمفترض في الامين العام أن يكون القيم عليها والعامل على تنفيذها والمتصدي لمن يخرقها والقادر على طلب عقد مجلس الامن بموجب البند 99 من الميثاق. فوجود الامين العام للأمم المتحدة في الرباعية يعني ان ما تقوم به في الشأن الفلسطيني منسجم ومتفق مع ما تمليه قرارات المنظمة الدولية ومتطابق مع الشرعية التي تحددها هذه القرارات. لكن هذا مناف للواقع، ومختزل لدور الأمم المتحدة، ومساهم في تغييبها عن قضية بقيت بنداً رئيساً في اجندتها منذ أكثر من ستين عاماً. كما تبقى مرجعية اذا أريد تفعيلها بدلاً من تعطيلها من اجل التوصل الى ما يوصف بـ"الحل العادل والشامل للنزاع العربي - الاسرائيلي".
ان مجرد وجود الامين العام في "الرباعية" هو بمثابة غطاء للاستباحة الحاصلة لحقوق الشعب الفلسطيني، في حين ان واجبه هو الحرص على امتثال اعضاء الأمم المتحدة، ومنها تلك المنضوية في الرباعية، للقرارات الدولية حتى وإن لم ينجز هذا الهدف في المستوى المرغوب. فالامين العام، بالاضافة الى صلاحياته وان تكن محدودة في بعضها، ينظر اليه في نهاية المطاف بصفته معبّراً عن "الضمير العالمي"، وبالتالي يبقى هذا الموقف الوجداني تحريضاً على التصحيح... وإن تأخر!!
بمعنى آخر: على الامين العام الخروج من الرباعية كي يبقى للأمم المتحدة مرجعية عند الاخفاق أو النجاح، وهذا مستبعد.

•••

وبالعودة الى المتوقع من دور طوني بلير، يسود انطباع انه يحتاج الى تعويم حتى لا يبقى خروجه من الحكم مرتبطا بانخفاض رصيده الشعبي في بريطانيا نتيجة تبعيته العمياء لارادة الرئيس بوش في العراق. ورغم انه ادعى ان مصلحة بريطانيا تبقى كامنة في علاقات مميزة بالولايات المتحدة فهذا لا يعني التبعية بل الشراكة، وان تكن بريطانيا الشريك الاصغر. فإضافة الى عبثية الحرب على العراق وتنامي الادلة على عدم شرعيتها، بقي بلير ملحقا وليس شريكا فيها. مما يفسر الاستياء العارم منه في بلاده. وهذا ما دفع الشريك الاكبر الرئيس بوش الى ان يكافئ تابعه بمنصب يؤول الى تعويم ما. فرشحه لمنصب رئاسة البنك الدولي لكن هذا الاقتراح اصطدم بعدم وجود رغبة في التغيير المفاجئ لتقليد يقضي بأن يكون رئيس البنك اميركيا. وبقي تعويض بلير هاجسا لبوش لكونه بدون موقع، وخصوصا ان الانخفاض غير المسبوق لشعبية بوش يساهم في اضعاف اي موقع له في تاريخ الولايات المتحدة، بخاصة بعد رفض معظم الشيوخ الجمهوريين تأييده في موضوع حق المهاجرين في تثبيتهم كأميركيين. وهو اراد مشروع القانون هذا كجزء من ارثه في الرئاسة فجاءت تداعيات العراق توسع رقعة تمرد الجمهوريين عليه.

•••

والسؤال هنا: هل يستطيع طوني بلير المعروف بالحذاقة اكثر مما هو معروف بالحكمة، ان يخلع عنه سمة التابع ليمارس استقلالية عن قوة التجبر الاميركي؟ ومن الاهمية نفسها سؤال آخر: هل يدرك بلير انه اذا لم يستطع انتزاع اعتراف واضح من اسرائيل بأنها في الضفة وغزة والقدس سلطة محتلة، وان ما قامت من ضم للقدس الشرقية وزرع للمستوطنات وتغيير في الواقع الجغرافي والديموغرافي، ترتكب خروقا لاتفاق جنيف الرابع وغيره من القوانين الدولية؟
ان نقطة الانطلاق لمهمة بلير يجب ان تكون انتزاع اعتراف كامل من اسرائيل بأنها سلطة محتلة، وبدون هذا الاقرار القانوني سوف تكون مهمته مرشحة للفشل، ولن تكون سوى اجترار لما سبقها، وبالتالي تكون اسرائيل هي التي تملي الشروط ووتيرة المحادثات. وعلى بلير ان يعترف بأنه منذ اتفاقات اوسلو التي شكلت بدورها المصيدة التي استحال بسببها اي تفاوض مع اسرائيل لأنه لم يكن هناك اتفاق مسبق على النتيجة التي يدعي الرئيس بوش ان لديه رؤية في صددها. ويبدو من تصريحات بلير الاولية انه يتطلع الى هدف تحقيق دولتين، لا اسرائيل "آمنة" وفلسطين". وهذا قول لم يعد له معنى اذا لم تقوّم المعادلة القانونية، اي احتلال تقابله سلطة مقاومة. وهذا وحده يمكّن الانتقال من محادثات هي مضيعة وقت الى مفاوضات تؤدي الى قيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس. من هنا اولوية الحاجة الى اعتراف اسرائيل بانها في الاراضي المحتلة بما فيها القدس، سلطة محتلة.
هذا هو التحدي امام طوني بلير: ان يتمكن من اجتراح مع عجزت عنه الرباعية واوسلو و"خريطة الطريق" وغيرها، من صياغات الهروب من الشرعية الدولية، ما ادى الى مزيد من الاستباحة والانتهاك لهذه الحقوق. كما ان الالتباس والابهام واهمال الحقائق القانونية تشكل تمرينا في العبث من الرباعية حتى لو كان المسؤول المباشر طوني بلير.

•••

ولعل ما يزيد الامور تعقيدا ويفاقم تردي الاحوال في فلسطين في شقيها المحتل والمغتصب وكذلك التصدع بين الضفة الغربية وقطاع غزة هو ان الرباعية التي اصبح بلير مفوضا عنها آخذة في استيلاد "رباعيات" اخرى، كالرباعية التي انعقدت اخيرا في قمة شرم الشيخ والتي بدورها تعمل على الاستقواء برباعية بلير مع اقناعه – وقد يكوزن سريع الاقتناع – برباعية شرم الشيخ. هذا "الاستقواء" المتبادل هو الصيغة التي من شأنها عمليا انهاء قضية فلسطين. وسوف يتطلب ذلك عاجلا ام آجلا اعادة البحث في القضية الفلسطينية من جذورها. وهذا ليس مجرد الخيار البديل في واقع شديد التعقيد، لكنه استشراف لما قد يحصل اذا ابقينا التعامل مع القضية في هذا المستوى من اللااكتراث بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وعودة لحمته واسترجاع الشرعية الدولية صلاحياتها ونجاعة قراراتها وهيبتها الاخلاقية.
ان استيلاد رباعيات اخرى يعني واقعيا ان نبحر وسط التعقيدات الحالية وما تفرزه من تداعيات واحباطات، حتى نجد انفسنا امام عجز في ادارة الفوضى التي نختبرها الآن في عراقنا العربي. اجل ان استيلاد رباعيات كالتي قامت في شرم الشيخ هو تعبير عن سياسة اميركية موروثة من طاقم المحافظين الجدد، اي استبعاد كل مخزون الامكانات العربية المتوافرة في المغرب الكبير وفي شعوب المنطقة العربية ككل.
اما الاعتراض على تعيين بلير فله اسباب وجيهة تكمن في سلوكه السابق. اما اذا اجترح معجزة اعتراف اسرائيل بكونها محتلة فعندئذ يكون علينا الاعتراف بأننا اخطأنا في التقدير، علما انه لن يغفر له ما فعله في مأساة العراق.