كل التطورات في الاسابيع الاخيرة تؤشر الى ان فلسطين القضية انتهت وانها في احسن الاحوال تحولت مسلسلاً من المشاكل، بعضها مستعصٍ على الحل والآخر قابل لانفراجات جزئية، ولعل اطلاق اسرائيل 256 سجيناً تكاد فترة اعتقالهم ان تنتهي، يؤكد ضآلة "مبادرة حسن النية" في مقابل ضخامة خطوات التنازل الحاصلة والمطلوبة.
نقول هذا والالم العميق الذي يشعر به معظم الفلسطينيون والملايين الذين اعتبروا فلسطين هوية نضالية، ناتج من انهم يشاهدون مشهد نهاية تاريخ اقدس قضية للامة العربية، والى حد كبير للوجدان العالمي. ولعل ما يدفع الكثير من ملتزمي قضايا التحرر من الاقتراب الخطير الى التشاؤم، وبالتالي الاستقالة من الالتزام، هو صفاقة الدوافع الاسرائيلية والاميركية التي تشير الى ضرورة "تقوية رئاسة الصديق العزيز محمود عباس بدفعه نحو مزيد من الاعتدال"، كأن تعريف الاعتدال هو تسهيل التزام الولايات المتحدة مصالح اسرائيل في المنطقة. ولا ازال، رغم كل ما اشاهده واسمعه، مدفوعاً الى الظن ان خطاب الرئيس عباس ومستشاريه الاعلاميين ناتج من وضع انفعالي لبعض تجاوزات "حماس" في غزة.
لكن ما يثير القلق والخوف هو التسرع الذي ابدته قيادات في "فتح" لجهة الترحيب بدعوة الرئيس بوش الى عقد مؤتمر دولي قبيل نهاية عهده، دون درس الظروف التي دفعته الى مثل هذه المبادرة، وهو الراغب في "انجاز ما كي ينزع وصمة القتل في العراق عن ارث ادارته".
لقد كان كل رئيس اميركي يعتبر ان كل انجاز يستطيع تحقيقه في معالجة الصراع العربي – الاسرائيلي او الاسرائيلي – الفلسطيني، سيسهم في إثراء رصيده في المنظور التاريخي. كان ذلك الدافع للرؤساء جيمي كارتر في اتفاق كمب ديفيد ورونالد ريغان بعد حرب 1982 وجورج بوش الأب في مدريد وبيل كلينتون في كمب ديفيد-2، والآن جورج بوش الابن في محاولة عقد المؤتمر الدولي.
لماذا كل هذه المحاولات لم تنجح؟ لأن اولوية ارتباط الولايات المتحدة باسرائيل كانت دائماً العنصر المرجح، وكثيراً ما كانت حاسمة حتى معاهدة الصلح بين مصر واسرائيل، لم تستطع تطبيع الشعب المصري.
لقد اجتمعت "الرباعية" في لشبونة الاسبوع الماضي وكررت مواقفها الرافضة لنتائج الانتخابات التي اوصلت "حماس" والاسباب التي بررت بها الحظر والتطويق والعزل التي فرضتها، والتي قال وزير الخارجية الاميركي السابق كولن باول فيها ان عزل "حماس" يخالف الشرعية بكل ابعادها لكون الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي دفعا الى قيام انتخابات شفافة، وان التطويق الخانق الان لـ"حماس" سوف يمدها بشعبية وقوة. واضاف باول، انه بالرغم من هذا الاقتناع "مستاء من العديد من مواقف حماس وعقيدتها".
هذه الدعوة المرتجلة، والواضحة في اهدافها الاميركية داخليا، فيها الكثير من الثغر، بعضها قديم ومستمر في عقمه والبعض الاخر جديد في اسلوبه ودوافعه. القديم المستمر هو من نوع الثغر نفسها التي حالت دون اي نتائج ملموسة، وهي ان اسرائيل لا تعترف بكونها محتلة. وهذا التغييب للمنطلق القانوني فسّر انتشار المستوطنات، وقرار ضم القدس واعلانها عاصمة اسرائيل الابدية، واسقاط حق العودة من المحادثات، ناهيك بـ"مفاوضات" لما سمي "الحل النهائي". كما اتاح لاسرائيل ان تعتبر اغتصابها لفلسطين عام 1948 الانجاز الاول للصهيونية كحركة "تحرير"، وان تصر على كونها "دولة يهودية"، كاستثناء للمعايير العنصرية. ثم ان "التحرير" لم يستكمل في اراض لا تعترف بكونها اراضي محتلة. الى ذلك كله، هناك الثغرة الاساسية في "الرباعية" وهي وجود الامن العام للأمم المتحدة فيها، وهذا خطأ فادح لا يجوز استمراره لأنه يفقد المنظمة الدولية صفات عالميتها وموضوعيتها واهليتها وصدقيتها في معالجة بند اساس في اجندتها منذ اكثر من 60 عاما. وكما قلنا سابقا ان التسرع في ترحيب الرئيس عباس ومعاونيه هو تغافل عن التجارب المرة التي عاناها الشعب الفلسطيني والتي ادت الى شهادة الآلاف من الشهداء والى مزيد من التمدد الاستيطاني منذ اتفاقات اوسلو و"خريطة الطريق" وغيرها.
•••
صحيح ان الاستمرار في العد التنازلي الذي تقوم به السلطة يجعل بعض التكرار اضطراريا. كما ان حماس في هذا الشأن اخطأت، ونقولها للتاريخ عندما انجذبت الى ممارسة سلطات ادارية و"تنفيذية"، مما دفع الامور الى تحول التنافس على السلطة خصومة وعداء. وهذا ليس جائزا سياسيا ولا اخلاقيا ولا نضاليا ولا فلسطينياً، فالمحظور وقع واقتربت فلسطين القضية من نهاية تاريخها.
لذلك وحتى لا تتم الاستقالة من الالتزام، لا مفر من اعادة مفاعيل اتفاق مكة المكرمة، ثم ابلاغ المجتمع الدولي ان قرار القمة الذي اكد الحد الادنى من حقوق الشعب الفلسطيني وشروط التسوية للنزاع ليس قابلا للتعديل او انه نقطة بداية، بل انه الصيغة المتطابقة مع ما اكدته القرارات الدولية لحقوق الشعب الفلسطيني ولأمن اسرائيل.
اما أن تصبح الضفة الغربية مكافأة، وغزة عقاباً، فهذا هو العيب الذي يخرجنا جميعا من التاريخ.