دعا الرئيس جورج بوش لعقد مؤتمر دولي للسلام في منطقة الشرق الأوسط، ورحب اجتماع وزراء الخارجية العرب المنعقد في القاهرة يوم الاثنين الماضي بهذه الدعوة، وتحفظ المندوب السوري المشارك في الاجتماع على قرار وزراء الخارجية وعلى الدعوة برمتها.
لأنه حسب تصريح المندوب السوري، من السابق لأوانه الترحيب بهذه الدعوة التي لم تتضح معالمها بعد وقبل الوقوف على التفاصيل والأسس التي ينعقد المؤتمر حسبها، وما إذا كان هدفه إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي وإقامة السلام العادل والشامل أم هو خطوة للعلاقات العامة وتلبية لمسعى إسرائيلي للتطبيع مع العرب
أو تصفية القضية الفلسطينية في ظل الأوضاع الفلسطينية الراهنة، وربما فات المندوب السوري أن يضيف "وفي ظل الأوضاع العربية الراهنة" أيضاً، التي يمكن اعتبارها أنها تشكل المرحلة الأضعف التي يمر بها العرب في تاريخهم المعاصر.
تذكرنا دعوة الرئيس جورج دبليو بوش بدعوة والده الرئيس جورج بوش الكبير عام (1990) إبان حرب تحرير الكويت لعقد مؤتمر للهدف نفسه، وقد تمخضت دعوته تلك عن عقد مؤتمر مدريد للسلام عام (1991) الذي شاركت فيه الدول العربية المعنية،
وكان برئاسة القطبين الدوليين آنذاك (الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في آخر أيامه) ونتج عنه مباشرة أو مداورة اتفاقية الصلح الإسرائيلية ـ الأردنية (اتفاقية وادي عربة) واتفاقية السلام الإسرائيلية الفلسطينية (اتفاقية أوسلو) وتوابعها،
ويمكن القول الآن بدون تردد ان الاتفاقيتين لم يستفد منهما سوى الطرف الإسرائيلي، وزادتا الوضع العربي شرذمة وتناقضاً داخلياً كما زادتا فرقة العرب وتراخى حرصهم على حقوقهم نتيجة هاتين الاتفاقيتين اللتين فصلتا قضية الأراضي الفلسطينية والأردنية المحتلة عن مثيلاتها السورية واللبنانية،
دون التزام إسرائيل بالوصول إلى حل مع سوريا ولبنان، ولم تكونا في الواقع أفضل من اتفاقية كامب ديفيد مع مصر، كما لم تكن سلبياتهما بأقل من سلبيات اتفاقية السلام المصرية ـ الإسرائيلية، بدليل أن الأوضاع مازالت معقدة حتى الآن، والصراع لم يحل لا جزئياً ولا كلياً، والصلف الإسرائيلي يزداد تضخماً، ولم تتراجع استهانة الحكومة الإسرائيلية بالحقوق العربية قيد أنملة.
إن ما كان خافياً عن وسائل الإعلام العربية والأجنبية أن حكومة (شامير) اشترطت لحضور مؤتمر مدريد عدة شروط لم تقبل المشاركة في المؤتمر إلا إذا تحققت، أهمها ثلاثة: الأول أن تجري المحادثات ثنائية بين إسرائيل وكل بلد عربي لوحده، أي أن لا يمثل العرب بوفد واحد ومطالب موحدة ليصلوا في النهاية إلى اتفاقية عربية ـ إسرائيلية واحدة شاملة،
بل لابد من اتفاقيات تشكل إسرائيل أحد طرفيها ويشكل كل بلد عربي معني الطرف الثاني. والشرط الثاني الذي أصر عليه شامير هو أن يفتح الاتحاد السوفييتي الذي كان نظامه يلفظ أنفاسه الأخيرة، باب هجرة اليهود السوفييت إلى إسرائيل، أما الشرط الثالث فهو أن لا يمثل الفلسطينيين وفدٌ مستقل بل يدمج وفدهم ضمن الوفد الأردني وفي إطاره،
وقد وافق راعيا المؤتمر والدول العربية المعنية على الشروط الثلاثة، فتمثل العرب بعدة وفود ومثل الوفد الأردني الفلسطينيين، وهاجر نصف مليون يهودي سوفييتي إلى إسرائيل، وبالتالي حققت حكومة شامير شروطها مسبقاً وقبل بدء المؤتمر،
وكان ما كان، ولم يتجاوز المؤتمر أهدافه الحقيقية في النهاية كعامل يساعد على تحقيق المطالب الإسرائيلية والمصالح الإسرائيلية، وامتصاص رغبة العرب في استرداد بعض ما قدموه في حرب تحرير الكويت مادياً ومعنوياً.
والآن، تأتي دعوة الرئيس بوش بعد مقابلة مطولة مع إيهود أولمرت، أُعلن بالتزامن معها تقديم الإدارة الأميركية مساعدة لإسرائيل قدرها ثلاثون مليار دولار أميركي خلال السنوات العشر القادمة (من يدري فقد يكون هذا هو الثمن المسبق الذي حصلت عليه إسرائيل كي تشارك في المؤتمر).
وفي وضع عربي أكثر ضعفاً وتهالكاً مما كان عليه قبيل مؤتمر مدريد، ووسط انقسام فلسطيني وتناقضات بين القوى السياسية الفلسطينية لا مثيل لها سابقاً، ودون وضوح جدول أعمال المؤتمر وأهدافه وتحديد الأطراف التي تشارك فيه والمرجعيات التي يعتمدها، (وخارطة الطريق) التي يسير حسبها، ولا يعرف حتى الآن بدقة من يرعى هذا المؤتمر،
هل هي الولايات المتحدة الأميركية لوحدها بحيث تملي عليه جدول أعماله وخط سيره ونتائجه؟ أم الولايات المتحدة وروسيا؟ أم اللجنة الرباعية؟ وهل سيأخذ في اعتباره آراء القوى العربية التي مازالت تتبنى المقاومة؟ وما هو الموقف من المبادرة العربية الشهيرة التي لم تعلن إسرائيل قبولها ولم يبد العرب تراجعاً عنها، وهل سيكرس المؤتمر نفسه للسلام الإسرائيلي الفلسطيني،
أم للسلام الشامل بين إسرائيل ودول المنطقة الأخرى؟ وما هو مدى اعتماد هذا المؤتمر على شرعية مؤتمر مدريد الشهيرة (الأرض مقابل السلام) وهل ستقبل إسرائيل المشاركة فيه على أرضية هذا الشعار؟ وقبل هذا وذاك، هل الحكومة الإسرائيلية لديها القدرة على اتخاذ قرارات حاسمة مع أن جميع استطلاعات الرأي تؤكد ضعفها وعدم ثقة الإسرائيليين بها؟.
ولعل هذه التساؤلات وغيرها تزيد الشكوك في جدية دعوة الرئيس بوش لهذا المؤتمر العتيد، وإمكانية أن يكون مجرد وسيلة لتجاوز الحقوق العربية، ودعوة للتطبيع مع إسرائيل قبل حل أي من مواضيع الخلاف، ولعل المندوب السوري في اجتماع وزراء الخارجية العرب كان محقاً عندما أعلن شكه بجدوى هذا المؤتمر وبأنه سيكون مؤتمر علاقات عامة،
دون أهداف أو آليات جدية قادرة على الوصول لاتفاقيات سلام شامل، وربما استعجل البعض في الترحيب بدعوة الرئيس بوش دون معرفة الأجوبة الحقيقية على تساؤلات عديدة، ووثقوا بالدعوة الأميركية دون حذر تؤكد ضرورته المحاولات السابقة لعقد مؤتمرات سلام مماثلة منذ عدوان يونيو 1967 حتى الآن.
لم يكن قبول وزراء الخارجية العرب بمبدأ الدعوة قبولاً مطلقاً وتلقائياً، حيث أكدوا في قرارهم الترحيب بالعناصر الإيجابية التي تضمنها خطاب الرئيس الأميركي والتي يمكن البناء عليها وخاصة ما يتعلق بحل الدولتين
وإقامة الدولة الفلسطينية وعلى حضور الأطراف المعنية بعملية السلام كافة وفقاً للمرجعيات المتفق عليها بهدف إطلاق المفاوضات المباشرة على جميع المسارات والبناء على ما تم إنجازه في هذا الشأن وفي إطار زمني محدد لإنهاء المفاوضات.
لكن هل يكفي هذا القرار وشروطه؟ خاصة وأنه لم يلحظ مواصفات الدولة الفلسطينية المطلوبة والمرجعيات المتفق عليها وعلى رأسها مرجعية مدريد (الأرض مقابل السلام) والتأكيد على عدم التراجع عن مبادرة السلام العربية التي هي في الواقع أضعف الإيمان.