أعطت تصريحات الناطقين باسم كل من الحكومتين السورية والعراقية أهمية كبيرة لزيارة السيد نوري المالكي رئيس وزراء العراق إلى دمشق في الأسبوع الماضي قبل حدوثها.
وعلّق كل من الطرفين أملاً كبيراً في أن تكون الزيارة بداية لمرحلة جديدة في العلاقات بينهما، والحق أن هذه العلاقات كانت غير مستقرة خلال نصف القرن الأخير، ولم تكن طبيعية لا مع النظام السياسي العراقي السابق ولا مع الحالي باستثناء سنوات قليلة جداً، وازدادت توتراً واضطراباً منذ الاحتلال الأميركي للعراق ومازالت كذلك حتى الآن.
ولم تكن هذه العلاقات عادية ولا مستقرة منذ غزو العراق، وهي مبنية على الشك وعدم الثقة المتبادلة فضلاً عن أنها معقدة ومتداخلة مع آراء ومصالح وتأثيرات ومواقف قوى أخرى داخل المنطقة وخارجها وعلى رأسها النفوذان الأميركي والإيراني الضاغطان على بغداد وعلى سوريا، فهل حققت زيارة المالكي الأخيرة تغييراً نوعياً في العلاقات بين البلدين؟ وهل توصلت لوضع الأسس لسياسة جديدة من شأنها إقامة علاقات متماسكة صلبة استراتيجية كما يجب أن تكون عليه العلاقات بين أي بلدين عربيين متجاورين؟.
من المهم أن نتذكر أن هذه ليست أول زيارة لرئيس وزراء عراقي لسوريا بعد الاحتلال الأميركي، فقد زارها عام (2004) إياد علاوي رئيس الوزراء العراقي آنذاك، والمفارقة أن جدول أعمال المحادثات في تلك الزيارة لم يختلف عنه في هذه إلا بأمر واحد هو وجود أكثر من مليون ونصف المليون مهجر عراقي إلى سوريا.
أما بقية المواضيع فهي نفسها: من الجانب العراقي أمن الحدود، قضية المتسللين، العلاقات الاقتصادية المأمولة، مشكلة اللاجئين السياسيين، ومن الجانب السوري وجود الاحتلال الأميركي وبرمجة انسحابه، وحدة أراضي العراق والوحدة الوطنية أو على الأقل التوافق بين المكونات السياسية العراقية، جدولة الانسحاب، تفادي الحرب الأهلية، إقامة علاقات اقتصادية وتجارية بين البلدين.
ورغم توصل علاوي في ذلك الوقت إلى اتفاقات بشأن الأمن ومكافحة الإرهاب مع السوريين إلا أن وضع هذه الاتفاقات موضع التنفيذ مازال متواضعاً وغير مرض بنظر العراقيين الذين يطالبون هم ومن ورائهم الأميركيون بمزيد من الجهد السوري في المجال الأمني ولا يرون أساساً من علاقات التعاون سوى هذا الجانب، مع أن السلطات السورية المعنية أعلنت أكثر من مرة أنها نفذت كل ما التزمت به في هذه الاتفاقات.
فأقامت حوالي ألف نقطة مراقبة على الحدود، ونشرت جيشها لمنع التسلل، واعتقلت مئات من المتسللين وأعادت بعضهم إلى بلدانهم، ووقعت مجدداً قبل أسبوعين اتفاقية أمنية جديدة مع العراق تضمنت مكافحة الإرهاب وتبادل المعلومات والتنسيق في مجالات المراقبة وغير ذلك، إلا أن هذا كله غير كافٍ بنظر العراقيين والأميركيين وليست مسألة منع التسلل جديدة على العلاقات منذ أيام الاحتلال الأولى ولا تنقصها في الواقع لا اتفاقات جديدة ولا جهود جديدة.
لأنه يتعذر على الجانبين ضبط الحدود ضبطاً مطلقاً لأسباب موضوعية ولكن السيد المالكي أصر على تجديد البحث في هذا الموضوع الذي سماه (مسائل أمنية) استجابة للضغوط الأميركية التي تلح على الاستمرار باتهام سوريا بالتقصير ويتعذر على المالكي رد طلباتها ورفض توصياتها.
أدرج رئيس الوزراء العراقي بين طلباته تسليم السياسيين العراقيين من مناصري العهد السابق المتواجدين في سوريا (وهل هذه أولوية؟) وتناسى أنه نفسه ومعظم الحاكمين في العراق الآن كانوا لاجئين سياسيين في سوريا أيام العهد السابق وأن سوريا رفضت تسليمهم للسلطات العراقية، فكيف بها تسلم اللاجئين السياسيين العراقيين الآن وتخرق تقليداً سورياً عمره عدة عقود؟
والملاحظ من جهة ثانية أن رئيس الوزراء العراقي وضع قضية المهجرين العراقيين إلى سوريا في ذيل جدول الأعمال وهي من أهم المعضلات، وربما لو استطاع لما أدرجها أبداً، فحكومته لا تهتم بشؤون المهجرين العراقيين ولا تريد أن تهتم أو تسأل عن هذه الشؤون وقد تركت مسؤولية مشاكل معيشتهم على عاتق السلطات السورية.
وحمّلتها الأعباء الاستثنائية التي تنوء بحملها الحكومة السورية من سكن وخدمات تعليمية وصحية ومواصلات والسماح لهم بشراء المواد الغذائية المدعومة كالسوريين، وما زالت أفواجهم تدخل إلى سوريا يومياً ويزداد عددهم، وتتجاهل الحكومة العراقية مواطنيها وعيشهم ومصالحهم بل وتنتقد السلطات السورية إذا طبقت إجراءات تنظيمية تضبط وجودهم.
على أية حال ليست هذه القضايا على أهميتها هي المؤثر المباشر على الرغبة في الوصول إلى علاقات متينة ومتوازنة بين البلدين، وإنما المشكلة تقع في أن الحكومة العراقية ما زالت تستجيب لضغوط سياسة الإدارة الأميركية تجاه سورية وخاصة إصرارها على أن سوريا تسهل مرور (الإرهابيين) من حدودها وأنها تشجعهم وتدعمهم، ويبدو أن هذا الضغط الأميركي هو العامل الأساس الذي كان دافعاً للزيارة.
زار المالكي سوريا وحكومته تشهد ضعفاً غير مسبوق ولم تعد ـ كما كان يزعم قبلاً ـ حكومة (وحدة وطنية) بعد أن غادرها الوزراء السنّة وبعض الوزراء الشيعة، وبعد أن تعذر الوصول إلى أي نوع من أنواع التوافق بين القوى السياسية العراقية، وتنامي عمليات القتل والتفجير والعنف والتهجير حتى أصبحت إرهاصات الحرب الأهلية تسيطر على المناخ العراقي العام.
وترى سوريا في هذا كله تهديداً حاضراً ومقبلاً لأمنها ولأمن المنطقة لا يمكن القضاء عليه لا بمراقبة الحدود ولا بالإجراءات الأمنية، وإنما بجدولة انسحاب المحتلين وتشكيل حكومة وحدة وطنية والوصول للوفاق الوطني، وإيجاد الظروف الملائمة لعودة المهجرين العراقيين، وإعادة النظر بالقوانين المخلة بذلك وببعض مواد الدستور العراقي التي تشكل قنابل موقوتة من شأنها أن تنفجر وتفجر معها كل مناحي الحياة العراقية وهو ما نشهده اليوم.
يفاوض المالكي السوريين وعينه على السياسة الأميركية الضاغطة ويفاوضه السوريون وشاغلهم الضغوط الأميركية عليهم والتواجد الأميركي في العراق، ولذلك خرج من سوريا كما دخل دون أن يحقق شيئاً جدياً من الرغبات الأميركية أو المصالح العراقية أو تمتين العلاقات بين البلدين، باستثناء تصريحات تتضمن من تعابير المجاملة أكثر مما تتضمن من النجاحات.
أما الجوانب الاقتصادية كمرور النفط العراقي من سوريا أو قضايا المياه العالقة بين البلدين وبينهما وبين تركيا، أو زيادة حجم العلاقات التجارية، فهي أمور رغم أهميتها فإن الجانب العراقي يقول بها ولا ينفذها وهي في الواقع ذر للرماد في العيون، وقد تم توقيع عدة اتفاقات بشأنها في الأعوام الثلاثة السابقة دون أن ينفذ منها شيء جدي، وعلى أية حال فهذه ليست من مشاغل الحكومة العراقية الأساسية ولا تلاقي رضا من الأميركيين.
لأن المالكي عاجز عن الوعد بتحديد مراحل انسحاب المحتلين أو تشكيل حكومة وطنية أو تعديل وإلغاء بعض القوانين والمواد الدستورية أو ضبط الحدود من الجانب العراقي أو مساعدة المهجرين العراقيين في سوريا للعودة أو الخروج عن الإملاءات الأميركية أو حتى منع تداعي حكومته، فهو لم يكن يملك شيئاً يقدمه لسوريا، وما دام حاله كذلك فماذا كان ينتظر من السوريين؟ إن أهم ما نطق به بعد انتهاء الزيارة هو أن السوريين كانوا متفهمين وجهات نظره، والتفهم لا يعني القبول بأية حال.