يتعذر على وسائل الإعلام الأوروبية أن تفسر الالتباس الذي حدث خلال السنوات الثلاث الماضية حول مسألة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ذلك لأنهم حرموا أنفسهم من عناصر التحليل، حين رفضوا التعامل مع ما من شأنه أن يغضب الآخرين.
كانت الجماعة الاقتصادية الأوروبية حتى عشية تفكك الاتحاد السوفييتي عبارة عن نظام للتعاون بين الدول، أنشأته الولايات المتحدة كاستطالة لخطة مارشال، فكان بمنزلة الجناح المدني لحلف الناتو.و
وبعد أن اعتبر الرئيسان، الفرنسي فرانسوا ميتران، والمستشار الألماني هيلموت كول، أن الاتحاد السوفيتي قد اختفى، ولم تعد الوصاية الأمريكية على أوروبا الغربية ضرورية، قررا تحويل الجماعة الاقتصادية المشتركة إلى دولة فوق وطنية، الاتحاد الأوروبي. وكانت فرنسا وألمانيا تطمحان، عبر ضم عشر دول أوربية إلى جانبهما، تحقيق كتلة حاسمة تسمح لهما بالمنافسة مع الولايات المتحدة.
بيد أن الولايات المتحدة كانت تفكر في الوقت نفسه فيما سيؤول إليه العالم من دون الاتحاد السوفيتي. الأمر الذي دعا بول وولفويتز، مستشار الرئيس بوش الأب إلى العمل على عرقلة تطور الجماعة الاقتصادية الأوروبية سياسياً، والتأكد من أنها لن تكون منافساً لواشنطن.
وبناءً على ذلك فرض وزير الخارجية جيمس بيكر على الجماعة الاقتصادية الأوروبية إدخال دول أوروبا الوسطى، التي كانت تحت الوصاية السوفيتية ودول الاتحاد السوفياتي السابق.
وهكذا أصبحت معاهدة ماستريخت تستجيب لأمرين : فهي من جهة، تخلق دولة فوق وطنية (الاتحاد الأوروبي) وتنص، من جهة أخرى على توسيع ذلك الكيان، على المدى الطويل. لكن المملكة المتحدة والدنمارك رفضتا تطور هذا المنحى، وخصوص رفضهما العملة المشتركة (اليورو)، مع الحفاظ على استمرار عضويتهما في الكيان الجديد.
لهذا السبب اقترحت الولايات المتحدة على بريطانيا في عام 2000 الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، والانضمام إلى اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية. غير أن الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكزيت) لم يحدث إلا عام 2016.
لاشك أن الاتحاد الأوروبي أضحى كتلة اقتصادية واسعة، لكنه لم يتطور إلى مستوى كيان سياسي، نظراً لاستحالة اتخاذ قرارات بالإجماع من أعضائه الحاليين.
ركزت حملة استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على الاستقلال الاقتصادي، لكن المسألة كانت في مكان آخر. كان يتنازع المملكة المتحدة والدنمارك شعور مشترك بتهديد ذلك الكيان القاري العملاق العابر للدول الوطنية، لسيادتهما.وظل مجلس العموم البريطاني لثلاث سنوات متتالية منقسماً حول ما إذا كان ينتمي إلى الاتحاد الأوروبي أم لا ، بشأن مسألة الاستعمار.
لقد أدى إحياء الحدود بين الأيرلنديتين، إلى إلغاء اتفاقية الجمعة العظيمة التي أرست السلام في أيرلندا الشمالية، لأنها لم تكن مصممة أساساً لحل النزاع، بل للحفاظ على الوضع الاستعماري لهذه المنطقة من خلال تجميدها.
لقد حرصت إنكلترا طوال أربعة قرون متتالية على ضمان عدم سيطرة أي قوة على القارة الأوروبية، وذهبت إلى الحرب ضد فرنسا نابليون، ثم ضد ألمانيا هتلر. وترك ونستون تشرشل الرايخ الألماني والاتحاد السوفياتي يتقاتلان من شهر حزيران 1941 إلى شهر أيلول 1943، ولم يدخل الحرب العالمية الثانية، إلا عندما تأكد من أن الحرب قد أنهكت كلا المتخاصمين.
على الرغم من أنه عاش فترة في الولايات المتحدة، إلا أن رئيس الوزراء الجديد بوريس جونسون، هو منتج خالص للنخبة البريطانية. إن غرابة الأطوار والثرثرة الزائدة لهذا الملقب ب "جو، المهرج"، تخفي وراءها ثقافته التاريخية العميقة.
لقد كرس كتابا عن مثله الأعلى، تشرشل. ويقوم مشروعه الحالي على وضع المملكة المتحدة في المرتبة الأولى عالمياً، من خلال جعل نفسه المستشار السياسي للرئيس الأمريكي، كما كان تشرشل بالنسبة لفرانكلين روزفلت، من جهة، وإدخال الاتحاد الأوروبي وروسيا في مواجهات ضد بعضهما البعض، من جهة أخرى.